الزمن ابن الدهر، حيث يقول الشاعر: يمر بنا الدهر في جريه.. فنهرم والدهر لا يهرم. والزمن هو المرآة التي نرى أعمارنا في ضوء مصباحها، لأنه الخزانة التي تعج بأسرار العمر، وإضبارة السنين، إنه التماعات الحياة الراكضة في دمائنا كطعم اليقين، حين تقطع ورقة من أوراق التقويم فكأنك تقطع لحظة أو ثمرة من شجرة الأيام المورقة والمهدورة، لتطويها أظفار الزمن وعروق التراب وأشرعة العمر المسافر، ها هو عام يهل ويهطل بإرهاصاته على هضبات الليالي والأيام، ليأخذنا كالينابيع العتيقة، ويقودنا كقوارب النهر، وليصرخ الشعراء من تحت معاطفهم الشعرية، طالبين الزمن أن يكف عن إيلامهم وأن ينزع أقدامه القاسية من مرعى أحلامهم، ليس هناك "أمة من الأمم أحست بالزمن كما أحس به الإنسان العربي"، كما يقول الدكتور علي شلق، فقد ابتلي بالترحال وقلق المصير، فاستنطق الأحجار والدمن وخشي الزمان وتشاكى معه، يقول طرفة: أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة.. وما تنقص الأيام والدهر ينفد. ويقول عبيد بن الأبرص وقد أدرك بعقله أمر الوجود والعدم والحياة والموت: دار حيّ أصابهم سالف الدهر.. فأضحت ديارهم كالخلال. مقفرات إلا رماداً غبياً.. وبقايا من دمنة الأطلال. ولكن إيليا أبو ماضي وجد طريقاً مختلفة ليمنح الزمن معنى معرفياً ومعادلاً رمزياً حياً، فهو يهشم الأزمنة ويرتقها ويلبسها رؤية أخرى حين يقول: قل للذي أحصى السنين مفاخراً..
يا صاح ليس السر في السنوات
لكنه في المرء كيف يعيشها..
في يقظة أم في عميق سبات..
قم عد آلاف السنين على الحصى..
أتعد شبه فضيلة لحصاة؟..
ولكن عمر أبوريشة يبدو على غير عادته حين تخلى عن شعريته الصارخة، وغضبه الساطع وكبريائه الحارق، ليستكين في عامه الجديد إلى تلك الرثائية بالغة العذوبة والانكسار:
وحدي هنا في حجرتي والليل والعام الجديد..
وحدي وأشباح السنين العشر ماثلة الوعيد..
كم حطمت مني ومن زهوي ومن مجدي التليد..
ورسائل شتى تقول جميعها عاماً سعيد..
ولكن حافظ إبراهيم يتشح بالزمن المقدس وطهارته، حين تتساوق أحاسيسه مع الفجر المضاء والشفيف، وهو يبتهج بعام الهجرة النبوية:
أطل على الأكوان والخلق تنظر..
هلال رآه المسلمون فكبروا..
وأذكرهمْ يوماً أغر محجلاً..
به توج التاريخ والسعد مسفر..
وهاجر فيه خير داع إلى الهدى..
يحف به من قوة الله عسكر..
أما عبدالله الزمزمي، فإنه يسرد مواجعه في لحظات قاسية، وأمل مطعون وضياعات وخيبات مدفونة في العام الجديد:
غداً سنصحو على عام قد ارتحلا..
والعمر يصرخ لا لم أبلغ الأملا..
شقيت يارب في فجر الصبا لعباً..
وعدت قبل غروب الشمس مكتهلا..
حتى أفقت وإذ بالشيب يصفعني..
كم مقصد يبتغيه المرء ما اكتملا.