حين نتأمل عقل الإنسان وما صنعه من حضارة متراكمة، نستطيع القول إنه تميز به عن بقية الكائنات، وأنه بالقدرة ذاتها التي يستطيع فيها أن يبني، هو أيضاً يستطيع أن يهدم! ومنذ بدء التكوين كان التدافع بين الناس سمة غالبة، ولهذا يلجأ الإنسان دائماً إلى عقله إذا ما أراد أن يبني، وبالقدر ذاته إذا ما أراد أن يهدم ويدّمر، وميزة الإنسان أنه كائن متعلّم باستمرار، منذ محاولاته الأولى في المشي حتى السقوط الأخير.

ولذلك لا يمل الإنسان من استخدام عقله للتفكير في معظم حالاته وتحركاته، إلا أن هنالك نوعاً من التفكير يتميز بالعمق والقدرة على الإبداع والابتكار على مستويات كبرى تسهم في إحداث التغيير على المستويات الكبرى أيضا، كتلك المتعلقة بالدول والمجتمعات والسياسات.

وبما أن "الاستراتيجية" أسلوب تفكير، فإنها الأساس الذي تقوم عليه عقول أناس أذكياء جداً، يستطيعون أن يفكروا جيداً وفق خطوات عقلية دقيقة، فيرون ما لا يراه كثيرون غيرهم. وتشير معظم المصادر العلمية إلى أن "التفكير الاستراتيجي" يقوم على أساس التفكير العميق، والقائم على التنبؤ الصحيح والتخطيط الدقيق طويل المدى، لمواجهة أحداث حالية ومستقبلية وفقاً لفهم الواقع بدقة، دون أن يتوقف على الواقع والأمور القابلة للتنبؤ، بل قد يتعداها إلى كشف المجهول بهدف حماية الموقع والمحافظة عليه.

ولذلك فإن "التفكير الاستراتيجي"-كما أفهمه- يشبه كثيراً طريقة التفكير خلال لعبة الشطرنج. تفكير عميق، ووقت طويل، ومحاولة لكشف ما يفكر به الخصم، وما يحتمل أن يقوم به، ومواجهته إذا ما حاول المحاصرة والتقدم. وفي الدول والمنشآت الكبرى تبرز قيمة التفكير الخلاّق، لذلك يقوم "المفكِّرون الاستراتيجيون" برسم السياسات والخطط، وصياغة الرؤى والأهداف، والعمل على حشد كافة الإمكانات، فيقودون بذلك التغيير والتحديث والتطوير.

يشير الدكتور صلاح عبدالقادر النعيمي في دراسة قيّمة بعنوان: "مواصفات المفكر الاستراتيجي في المنظمة"، إلى عدة صفات مهمة ينبغي أن تتوفر على من يُطلق عليهم مفكرون استراتيجيون، على أساس أن "الاستراتيجية" شيء في داخل عقول هؤلاء، تعتمد على القدرة على التفكير العميق، من خلال كيفية تخيّل ما سيحدث في المستقبل، والخطوات اللازمة المطلوبة لذلك، والوسائل التي تجعل هذه الخطوات في صالح المنظمة؛ ولهذا تقع على المفكرين الاستراتيجيين مسؤولية النجاح والفشل، ويرتبط ذلك بالضرورة بعدد من الأفراد داخل المنظمة، يمتلكون العديد من المواصفات، أهمها القدرة على الإدراك والتحليل والتركيب، مع القدرة على الإبداع والنشاط والفعل والتطوير.

غير أن الرؤية الذاتية (الفلسفة الشخصية) لدى المفكر الاستراتيجي تعتبر إحدى أهم العوامل المؤثرة في صياغة الاستراتيجية، والأهم في ذلك أن المفكرين الاستراتيجيين يستخدمون "التكفير العقلاني" الذي يستند إلى النشاط العقلي في التعامل مع المشكلات، ولهذا يوجد اختلاف كبير بين المفكر الاستراتيجي والمدير، وهذا ما يوحي بأهمية دور العقل من جهة، وخبرات الحياة من جهة أخرى في طريقة التفكير؛ لأن الجانب الأساس هو وجود رؤية ذات أبعاد شاملة تعين على كشف وتصور ما يمكن أن يحدث في ساعات أو أيام أو شهور أو سنوات قادمة.

كما يؤكد النعيمي في دراسته أن "عقل الاستراتيجي عبارة عن جهاز معقد ومدهش"، يتميز بمحددات تؤثر في قدراته المعرفية، ومنها الطاقة التي يعالج بها المعلومات، والقدرة على الإحساس بها، وطاقة خزنها، وتبرز صعوبة مهمته من خلال صناعة القرارات الاستراتيجية التي ينبغي أن تحقق حالة التوازن بين واقع المنظمة ومتطلبات بيئتها ومستقبلها في ظل الظروف غير المؤكدة، وبالتالي فإن دور الاستراتيجي يكون أكثر وضوحاً في خلقه المواءمة بين السياسات الوظيفية والأنشطة الضرورية للمنظمة.

وبعد هذا العرض، قد يتساءل القارئ: وما علاقة هذا الموضوع بمقال الأسبوع الماضي حول مجلس الشورى؟ والجواب: هو الخطوة المهمة التي خطاها المجلس في مجال السياسة الخارجية، حيث إنه يتأهب لدخول كواليس السياسة الخارجية لإعانة الحكومة بالرأي السياسي-بحسب "الوطن"- وهنا أقول إن هذا الأمر مهم وضروري، لكني أتمنى ألاّ يكون الأمر كموقف المجلس من القضايا الداخلية والتي اكتسب بسببها صورة نمطية خاطئة لدى المجتمع.