لا تزال إشكالية الإبداع والإلهام لغزاً محيراً لكثير من العلماء والفلاسفة! منذ بروتاجوراس وأفلاطون وأرسطو مرورا بالفلاسفة المسلمين ومنهم ابن رشد، والفارابي، وابن سينا، والكندي، وابن خلدون، وصولا إلى هيوم، وهيجل، ونيتشه، ولويسيان جولدمان، ودريدا، وفوكو وغيرهم؛ حيث ربط كل هؤلاء بين الإبداع والمعرفة إما بالسلب أو بالإيجاب.
ومن هؤلاء من ربط بين الإبداع وعلوم ما وراء الطبيعة لجهلهم ببواطن علم النفس واللاشعور ومكامن السليقة؛ ففسروا مجهولا بمجهول، ومنهم لويس عوض إذ يقول: "الواقع الثابت أن الأقدمين لمسوا ما بين الشعر وما فوق الطبيعة من صلة. ترى ذلك في أتيمولوجيا اللغات واضحا وضوح المصباح. عد إلى اشتقاق كلمة "جنون" في اللغة العربية و"جينيس" في الإنجليزية، و"جيني" في الفرنسية، ثم اكشف عن معنى "جنيوس" في اللاتينية، ترى أن الجن في كل حالة مسؤولون عن التفوق الذهني كما هم مسؤولون عن الخبل العقلي. اكشف عن "العبقرية" تراها صفة تتحقق في كل من ركبته شياطين وادي عبقر بشبه الجزيرة العربية. فإن تحدث إليك ناقد عربي عن "شيطان" قيس بن الملوح، فلا تصرفه هازئا بل تدبر ما تشتمل عليه عبارته من معان جمة تهمك في دراسة النقد، وإن قرأت فصلاً عن "مجنون" بني عامر فلا تحسبن أن الحب وحده قد أودى بعقله، بل تذكر أنه قال شعراً أو قَوَّلته الأساطير شعرًا، ثم اتجه إلى ديوانه تستفد منه في هذا الصدد.
كما أن هوراس ذلك الفيلسوف الروماني، وريث أرسطو، يقترب من رأي أفلاطون وغيره بأنه مس من الجنون: "النبوغ الفطري أفضل من الفن المكتسب العقيم، ويطرد من ساحة هليكون من صح عقله من الشعراء". ثم أخذ هوراس في مقاله حول الإبداع يصنف تصنيفا قيميا فيقول: "لما كان الناس متوحشين، روعهم أورفيوس، من سفك الدماء ومن سوء الحياة التي يحيونها، ولذا قيل عنه إنه روض النمور والسباع الكاسرة، وروي عن أمفتريون، باني أسوار طيبة، أنه حرك الأحجار بصوت قيثارته، وقادها حينما شاء بضراعته الرقيقة، هذا كان معنى الحكمة قديما.. فهوميروس الذي بلغت شهرته المرتبة الثانية بعد هؤلاء، وترتايوس، قد جعلا قلوب الشجعان تخفق لمعارك مارس، وفي الأغاني وردت النبوءات وأنير طريق الحياة، واستجدى عطف الملوك في قصائد من ربات الشعر، وألفى الناس المتعة تكلل نهاية الكد الطويل".
وقد انقسم النقاد إلى فريقين، فريق يشجع نظرية "الفوروو" وهو الإلهام، وفريق يشجع مبدأ الصناعة والحرفة والاكتساب، فالفريق الأول هو الذي قال فيه هوراس في كتابه (فن الشعر) في السطر 295: "أصبح شطر عظيم من الناس لا يعتني بقص أظافره أو قص لحيته، ويتلمس الأماكن المعتكفة، ويتحاشى الحمامات، لا لشيء إلا لأن ديمقريط يعتقد بأن النبوغ الفطري أفضل من الفن المكتسب العقيم، ويطرد من ساحة هليكون من صح عقله من الشعراء".. وكان "كريستوفر مارلو" و"فرنسوا فيون" وجل شعراء القرن السادس عشر يؤمنون بالربط بين الجنون وبكفاية الموهبة الشخصية. ويتبعهم في ذلك كل من "بيسفلد" حين يقول عن بعض الموهوبين العظام: "إن رقتهم وسعة أفقهم كانتا في كثير من الأحيان شيئا عظيما رحيباً". ثم توافقه الرأي "راشيل كروثرس" فتقول في محاضرة لها في جامعة بنسلفينيا: "سواء استطاع الإنسان أن يبدع أو لم يستطع فهذه ليست مسألة ذكاء أو خبرة فقط، ولكنها مسألة ذلك الشيء الغامض الذي لا يمكن تعريفه، أعني السليقة".. وبهذا فقد اتفق كلاهما أن المبدع يولد ولا يصنع.
فقضية الإبداع، أمر مُلهم؛ إلا أن المفكرين والفلاسفة المسلمين يرون أنه يأتي من الحافظة متغذى بروافد المتخيلة المملوءة بالمعرفة عن طريق الحواس الخمس، وكان كريستوفر مارلو، وفرنسوا فيون، وجل شعراء القرن السادس عشر يؤمنون بالربط بين الجنون وبكفاية الموهبة الشخصية، إذاً لا بد من تعاضد شيئين مهمين. ومن هنا يقول "دين كيث سايمنتن": "إن مصطلح العبقرية هو مصطلح ينضوي تحت لوائه مصطلحان آخران هما الإبداع والقيادة، أي المستويات المنخفضة والمتوسطة والمرتفعة، بل يقوم بالتركيز على المستوى المرتفع فقط من الإبداع وعلى المستوى المرتفع فقد القيادة، ويطلق على هذين المستويين اسما عاماً شاملا هو العبقرية".
إن للإبداع بمجمله ملكة خاصة يؤتيها الله - سبحانه وتعالى - من يشاء، في هبة من هباته. الحكمة والمعرفة مصطلحان شغلا العالم على امتداد تاريخه. وقد فُسر ذلك البحث الدائم على أنه نتاج القلق الدائم لدى الإنسان للبحث عن المعرفة. وقد توازى البحث عن المعرفة مع الزمن والتاريخ وتتابعهما، إلا أننا وجدنا أن البحث عن الحكمة قليل جداً بالنسبة للبحث في مدارات المعرفة. فهل هما مصطلحان يؤديان إلى المفهوم نفسه؟ أم أن لكل منهما مفهومه وفلكه الخاص بمعناه، خاصة أن الله - سبحانه وتعالى - قد كرم الحكمة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).
المفكرون الأحدث عهدًا ببحث القضية من خلال الإبداع والإلهام، تعددت آراؤهم في قضية الإلهام، والتي استعرضناها في ثنيات موسوعة نقد النقد التي أجرينا فيها تحليلا علميا لكل الآراء في هذا الصدد، فاتضحت لنا تلك العلاقة الوطيدة بين الأنس والاغتراب حتى توصلنا إلى ما أسميناه "السوبر وعي" أو العقل الكوني وهي منطقة تتوسط هذا الصراع، فتحسمه بين الإلهام والإيحاء، وبين الوعي بالذات لحظة الإبداع، فيكون المبدع في منطقة لا يخترقها إلا المبدعون، وهي منطقة ما فوق الوعي، وبالتالي يحتفظ المبدع بوعيه، إلا أنه يكون بعيدًا عن الوعي البشري المقيد بأغلال الوعي، فهو ذلك الانفلات من تلك الأغلال إلى فضاءات كونية، ولكن بالوعي الأعلى (السوبر) خلال ومضات الاستبصار، وهي تفتق الفكر بجميع مستوياته، وهو ما ينتج عن ذلك الأنس الثقافي والمعرفي لدى المبدع، فالإلهام هو حالة إبداعية لا تتأتى للمبدع إلا حين يكون في اتساق تام مع ذاته أولا وقبل كل شيء، ثم في اتساق ذلك النسق الثقافي وثقافة واقعه في حالة من التواؤم التام بين كل هذه الدوائر المعرفية في تماس دائم وأنس معرفي.