ونحن نخوض غمار البحث في المعنى ونستشرف أفق الثقافة بوصفها حاضنة التطور؛ لا يصادفنا على شرفات الرؤية التتبعية المباشرة غير مشروع آخر متنوع الأدوات متعدد المواقع، كلما امتد مسرح أحداثه واختلفت مجالاته تفاقم اليأس لدينا من إمكانية انتهاز اللحظة السياسية واعتمارها مدخلا للإيقاظ.

خلال الشهر الفارط فقط كان مشروع التغريب بأقنعته الأصولية وأصابعه المافيوية، وأرومته السياسية يتحرك بسرعة الصوت متنقلا بين باريس وصنعاء والرياض في تناغم أعيذه من البراء والعفوية.

هناك على ضفاف الدانوب تبرز قوى التطرف التي يستضيفها الغرب للزراية بالعرب وهويتهم الحضارية والإسلامية، ومن باريس ينطلق الماراثون المقدس لتنظيم هجمات بدائية ضد عدد من الفعاليات الثقافية التي تتبناها الحكومة المصرية في أشد أحوالها حرجا، وهي تفعل ذلك بغية الدفاع عن صورة الأمة وقدرتها على ضخ المعرفة وإزاحة الصورة البائسة التي تريد الأصوليات المتطرفة فرضها بالقوة كلما وسعها الحال قتل مفكر أو أسعفتها الفرص تدمير مرسم والقضاء على تمثال.

ومن التطرف الأصولي المصري في مواجهة مهرجان ثقافي وفني في باريس إلى التهور في ادعاء الحداثة واستغلال حقوق الإنسان للتعبير عن أهواء السياسة وقطع الطريق على أي إصلاحات سياسية واجتماعية وثقافية تشرع بعض الأنظمة العربية في انتهاجها بتدرج عقلاني مدروس، يثمر تغييراً آمناً يصب في صالح الأوطان ويحول دون الإيقاع بالشعوب في فخاخ النصائح الغربية المهووسة باستنساخ تجارب الفوضى وتعميمها على شتى أنحاء الوطن العربي، لدرجة أن تغدو فعالية مطلبية محتملة حول تمكين المرأة من قيادة مركبتها محل احتفاء كبير من القنوات الفضائية العالمية، وكما لو أن كوكبا جديدا تم اكتشافه أو أن هذا الإعلام الموجه ينقل للمواطنين العرب نبأ وقف نزيف الدم في سورية والعراق وانتصار الضمير الدولي للقضية الفلسطينية العادلة، أو لكأن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن السيد جمال بنعمر أنهى نسبة الـ10% من القضايا العالقة على طاولة الحوار الوطني بصنعاء ولا يفكر في الضغط على قوى الصراع التقليدي لوقف معاول الهدم في كيان وأجهزة السلطة، وضمان الإبقاء على استحقاقات التسوية ومغانمها في حدود الاستحواذ على الموارد الشحيحة المتبقية من الغطاء النقدي لدى البنك المركزي وعدم تجاوزها إلى جوانب تمس هوية وتاريخ الشعب اليمني بعد ما طالت يد الفوضى الخلاقة عددا من المقتنيات الأثرية وتمكن لصوص مهرة من سرقة مخطوطات نادرة لا تقدر بثمن، إلى جانب مشغولات يدوية تروي تاريخاً عريضاً من حياة مجتمع وضع بصماته الوضاءة في سفر الحضارات الإنسانية قبل انخراط طائفة من أبنائه في فقه الذرائع وإلقاء اللائمة على (الفأر) المدان بجريمة انهيار سد مأرب الشهير، لتظل التهمة جزءاً من الثقافة السياسية ومفاصلات الإفلات من المسؤولية.

ترى أين يقع الناظم المشترك بين هذه الأمثلة الثلاثة..؟ يحتاج الأمر إلى دراسة متأنية تبحث في جذر المعضلات الكبرى، وبمقدمها أزمات الهوية واستراتيجيات التغريب، أي اقتلاع الأمة العربية من عمقها الحضاري ومحاكاة نفس السيناريوهات التي استعملتها قوى الصراع الدولي إبان الحرب الباردة مع رسم برامج متنوعة تتناسب ومناعات كل قُطر.

فإذا كانت أوضاع اليمن ما تزال هشة وضعف مكونات الدولة ما برح سائدا فإن تجريد الشعب من أسانيده الحضارية في عمليات سطو واسعة تشمل معظم المواقع الأثرية، بما يشبه سرقة الأعضاء البشرية، يمثل إحدى الأولويات المناسبة لاستراتيجية الاقتلاع، بينما تقتضي الضرورة نمطاً آخر من الاستهداف يغري الجماعات المتطرفة للعمل على إجهاض دور الدولة في استنهاض مؤسساتها الثقافية وتجسيد رسالة التنوير الموجهة للعالم الخارجي دفاعا عن مكانة مصر وصمودها الأسطوري في صد المشروع الأميركي المحمول على رافعة التطرف.

بيد أن احتفاء الوسائل الإعلامية الدولية وتداولها موضوع المطالبات الحقوقية بتمكين المرأة السعودية من مقود سيارتها لم يكن احتفاء بجوهر الموضوع ولا تضامنا مع عدالة المطلب قدر ارتباطه بموجهات استهداف خارجي يتعاطى مع حاجات شعوبنا، بمنطق الاستثمار السلبي في القضايا الموضوعية وتحويلها إلى زوابع صغيرة تغري نشطاء وناشطات المجتمع على الاشتغال بقشور التطور بدلا عن التراص المطلوب من قوى الحداثة لمساندة متخذ القرار وحفزه على المضي قدما في انتهاج المزيد من التوجهات الإصلاحية التي برزت مؤشراتها واضحة في حقبة الملك عبد الله، على نحو فاق توقعات الحداثيين في عدد من الأقطار العربية الجمهورية.

إن كان للحداثيين نصيب من تلك الإثارة فإنهم ولا شك يذكروننا بما كانت عليه تجربة التيارات اليسارية والقومية في القرن الماضي، من طروحات متسرعة استدعت نقائضها المتطرفة ودفعت النظم السياسية العربية للتحالف مع قوى الإسلام السياسي ليصل الحال بمجتمعاتنا إلى ما نحن عليه من انقسام وتخندق وضياع مصير ومآلات انهيار.

وفي مجتمع تلفه خاصية رسالية أزلية التأثير على ما حولها فإن قرارات العاهل السعودي على صعيد التحديث المؤسسي والأخذ بيد المرأة السعودية نحو الشراكة في رسم السياسات العامة أهم بكثير من الطفرات السطحية التي تغمض عينيها عن صناعة المركبة إلى من يقف خلف مقودها، ولو كان هم الارتقاء حقيقياً لجرى النظر بتعمق إلى ما تمثله مشاركة المرأة في مجلس الشورى السعودي على نحو مختلف، إذ هو في واقع الأمر يمثل البداية الواضحة على طريق النهوض بأمتنا العربية وتأهيلها لمقارعة رياح التغريب والاستلاب.. والأدعى بأشقائنا في المملكة أخذ قصب السبق في تبني المشروع الثقافي العربي الشامل لتحصين شعوبنا من آفات التطرف وعدوى التثاقف بأعراض التطور ومباهلات الموضة والاحتراس من أمراض الغفلة عن حراسة التراث العربي وآثاره التاريخية النادرة.