كان يا ما كان في قريب العصر والأوان أنه إذا اشتكى أهل جيزان من مسؤول، ثم نقله الوزير، لأغراض غير شكواهم، وجاء بجديد مكانه، يفرحون ويصفقون ويشكرون، وهم بنيات الجديد لا يعلمون، ثم إذا لبث فيهم سنين عددا، وكانت أخطاؤه طرائق قددا، ورأوا أنه لا يختلف عن سابقه في الفضل، حَذْو النعل بالنعل، صرخوا واشتكوا وطالبوا بالنقل.

وكان الجيزاني يراجع وحده، ويخيب وحده، ويحبط وحده، لا أحد يعلم عنه.

قال أبو عائشة: أما الآن فقد تغير الحال والمقال، وصار الناس يبحثون عن سيرة المسؤول الجديد قبل وصوله، وينبشون في أصوله وينقبون في فصوله، ويدخلون مكتبه قبل دخوله.. ألا ترى أنهم عرفوا أمين الأمانة الجديد، فـ"توتروا" بسيرته و"تواتسوا" بصورته، قبل أن يباشر في وظيفته، وجمعوا آراء مواطنين له عندهم سابق خدمة وخَبَرُ ذمة.

وهم لم يفعلوا ذلك تفاؤلا ولا تشاؤما، إنما يقرؤون نظرة الذي عيّنه وأمانة من استأمنه، ويخافون على صبابة أراض لم يُترك منها إلا قليل، يعيث الفاسد فيه ويجرح قلب النزيه.

الجيزاني لم يعد يحتمل الخيبة وحيدا، فالمصائب يجمعن المصابين، فيرتفع غضبهم غير محبطين.

قال لي أحدهم: لأننا بحقنا مطالبون، فبعضهم منا ينتقمون، فما ظنك بالعشرات والمئات يفعلون إذا رأوا أن غيرهم يعطى وهم من حقهم يُحرمون؟

قلت: يشتكون. قال: يا متخلف "لا بكا ينفع ولا شكوى تفيدـ بعد ما جافيت يا حبي الوحيد"!

حين كان الناس لا "يتوترون" ولا "يتواتسون" ولا "يفسبكون" كان أحدهم ينطوي على هزيمته، كمن يشرب الصديد، أما في حاضر العصر والأوان، فقد صاروا يتواتسون عما يفعلون. وهذه ـ لعمري ـ خطوة على صراط قويم... والحق يُنتزع..