حتى وقتٍ قريب كنت أحسب أن الانقسام السياسي والاجتماعي ينحصر بين جماعة الإخوان ومن يصطفون خلفها من تنظيمات مُتطرفة من جهة، مقابل تكتل شعبي يجمع كافة الأطياف المدنية من أنصار "الدولة الوطنية"، حتى صعقت بحوارات خشنة بين خصوم الإخوان من المدنيين. رصدت تلك الخلافات في الشارع وعبر وسائل الإعلام لتحتدم لأبعد مدى عبر شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية، بين أنصار ثورتي 25 يناير، و30 يونيو، مع أن الذين شاركوا في الثورتين ـ باستبعاد الإخوان من المعادلة ـ هم الشعب ذاته، وجوهر الخلاف يكمن في مدى أهمية كلتيهما، وأيهما التي تستحق صفة الثورة، مع أنني أعرف كثيرين شاركوا في الثورتين، لكن شقاقًا وصل لدرجة تبادل الاتهامات بالتخوين والعمالة.

فوراً زكمت أنفي رائحة خبيثة أعرفها جيدًا، مصدرها مخطط خبيث يبدو أن جماعة الإخوان سوقته شعبياً ليبتلع كثيرون ذلك "الطُعم الخبيث" والخصومة المُختلقة بين من يُفترض أنهم في سفينة واحدة، يواجهون ذات الخصم وتحديات مشتركة لإعادة بناء مؤسسات الدولة المهلهلة، الأمر الذي أصابني بصدمة استيعاب مبررات هذا الخلاف المُصطنع، وكيف لا يدركون أن الرابح الوحيد منه هو جماعة الإخوان التي تخوض "حربًا شاملة" على مسارات متوازية، ميدانيًا بالشارع، وفكريًا بتسويق حملات "دعاية سوداء" ضد الجمهورية الجديدة التي تتبلور ملامحها، ناهيك عن تعاقد التنظيم الدولي للإخوان مع شركات دعاية غربية لتشويه الواقع الجديد في مصر.

يرى أنصار ثورة 25 يناير أنها الأصل وسرقها الإخوان فاستردها الشعب في "موجة ثورية" حين نزلت الشوارع الملايين في 30 يونيو، وانحاز الجيش للشعب في 25 يناير، وأيضاً في 30 يونيو، مع اختلاف الظروف، ولعله كان ضروريًا أن يُجرب الشعب حكم الإخوان ليُدرك حقيقتهم، ويراجع خياراته، وبالتالي خرج ثائرًا ليسترد مكتسباته الثورية.

في الجانب الآخر يرى مؤيدو 30 يونيو أنها الثورة الحقيقية، وما حدث في 25 يناير لم يكن ثورةً، بل مؤامرة شاركت فيها أطراف أجنبية بالتعاون مع من يصفونهم بـ"العملاء" من النشطاء السياسيين والحقوقيين والنخب الانتهازية، التي أسفرت عن تمكين الإخوان من السلطة، وأن هؤلاء "المتآمرين" تربحوا مما حدث في 25 يناير.

الخوض في تفاصيل الرؤيتين لا يتسع له المقام، فهناك تقديرات متباينة للأطراف الفاعلة سواء من المؤسسات الرسمية كالجيش والشرطة والقضاء وغيرهم، أو المنظمات غير الحكومية كالكيانات الحقوقية أو المجموعات الثورية التي تعرضت بدورها لانقسامات عميقة، ليجد المراقب للمشهد أنه أمام حالة تشرذم بالغة التعقيد، ويستميت كل فصيل في الدفاع عن رؤيته لحد التلاسن والعنف اللفظي، وهذه "كارثة سياسية"، لأن الإخوان نجحوا بتسويق مخططهم، لدرجة أن دُعاة الدولة الوطنية يمضون في الطريق الخطأ، وشوشت خلافاتهم على جوهر الصراع الذي لم يُحسم مع جماعة الإخوان وأنصارها، التي أراها المستفيد من هذا الصراع الوهمي المُختلق الذي يُنذر بعواقب وخيمة.

هل يحتاج المصريون لمزيد من التجارب المريرة ليكفوا عن هذا اللغو السخيف؟ أتساءل والمرارة تحاصرني: ماذا نحتاج لنتجاوز هذه التُرّهات وننتبه لمخططات الإخوان وتنظيمهم الدولي الذي ينفق بسخاء لتدمير حلم بناء الجمهورية الثانية؟ وحينما نختلف سياسيًا فهناك آليات للحسم عبر البرلمان والتنافس بتقديم الخدمات لأبناء العشوائيات وقرى الصعيد المهمشة منذ دهور، وهذا يقتضي إدراك حقيقة بسيطة مفادها أن اختلاف التقديرات بين المهمومين بالدولة المدنية الوطنية هو "صراع سياسي"، أما علاقتنا بالإخوان وأنصارهم فـ "صراع وجودي".

وإذا أضفنا لما سبق هشاشة الحكومة الانتقالية وعمق الانقسامات في المجتمع وأزمات مزمنة كحماية الحريات العامة واحتواء مظالم الأقليات العرقية كالنوبيين، والدينية كالمسيحيين، كل هذا و"حكماء اسبرطة" يتصارعون حول قضية "البيضة والكتكوت"، وهل كانت 25 يناير ثورة، أم إنها ثورة 30 يونيو، وأيهما الأصل، فهذا لن يُفيدنا، لكنه سيشتت شملنا في لحظةٍ فاصلة تجعل تبادل الاتهامات بالتخوين والتآمر جريمة بحق الوطن والشعب.. وكان الله في عون من ستحمله الأقدار للرئاسة، فهناك تحديات هائلة تنتظره، كما يتوقع منه المصريون ما يفوق قدراتنا وإمكاناتنا، وليتنا نتواضع قليلاً فيما نحلم بتحقيقه، لأن الأحوال ليست على ما يرام.