قبل سنوات طويلة، كنت للتو أنهيت سنة العلوم الصحية، وبدأت الدراسة الفعلية في كلية الصيدلة، ورغم أن الجدول الدراسي كان معقولا، إلا أن يوم الاثنين ـ بالذات ـ كان مزعجا لي، إذ كنا نقضيه في كلية الطب، حيث محاضرات ومعامل مادتي "التشريح" وعلم "الأنسجة"، حيث صدمت من كمية المادة العلمية وتشعبها، وأيقنت أنني لن استطيع تجاوز المادة، لكنني بالصدفة اطلعت على مذكرة ضخمة للمادة، كانت واضحة ومرتبة ترتيبا رائعا، مما جعلني أقبل على المادة بعد أن كنت خائفا منها، والعجيب في الأمر أن هذه المذكرة التفصيلية كانت نتاج طالب واحد، هو الزميل "خليفة الذياب"، ذلك الرجل الذي تحوّلت قصة كفاحه المتواصلة إلى سلسلة من العمل الصادق لصالح الآخرين، دعني أقول لك يا "خليفة" لقد كنت سببا أساسيا في تجاوزي هذا المقرر ومقررات دراسية أخري.
لكن دعوني أعرفكم أكثر على قصة هذا الشاب العصامي، الذي بدأ الصيدلة من أدني دراجتها، أي "فني صيدلة"، إلى أن وصل مؤخرا إلى عضو هيئة تدريس في كلية الصيدلة بجامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية.
ولد "خليفة" في أسرة سعودية بسيطة، وكان ابنها الوحيد، حتى رزق بأختين، أكبرهما تصغره بثماني سنوات، كان يحلم أن يكون طبيبا، لكنه ما إنْ أنهى المرحلة الدراسية المتوسطة، حتى أدرك الوضع المالي الصعب لعائلته، فوالده يعمل بوظيفة بسيطة في وزارة الصحة، وراتبه بالكاد يكفي متطلبات الحياة، والأسوأ أن والده سوف يحال على التقاعد بعد سنوات قليلة، أي بالتحديد عندما يكون على مقاعد الدراسة الجامعية، ولكن بحكم عمل والده، فقد كان مطلعا على ما يطلق عليه بـ"المعاهد الصحية الثانوية"، التي كان يلتحق بها حملة الشهادة المتوسطة ـ حينئذ ـ لتخرجهم فنيين في المهن الصحية، كالصيدلة والأسنان والبصريات وغيرها. يقول "خليفة": "شرح لي والدي الصورة الكاملة، وعرض عليّ فكرة الانضمام للمعهد، ومنع حصول كارثة مادية للأسرة"، لكن هاجس الدراسة الجامعية كان ملحا"، وكان أن طرحه على والده، الذي سعى وسأل وتأكد أن خريجي المعهد في تخصص الصيدلة من الممكن أن يكملوا دراستهم في جامعة الملك سعود، للحصول على البكالوريوس، وبالفعل هذا ما حدث، حيث درس "خليفة" في المعهد الصحي بالرياض، وتخرج منه عام 1414، وليحقق الترتيب الأول على مستوى الرياض، والثاني على مستوى المملكة!.
وهكذا وبعد اكمال فترة التدريب تعيّن "خليفة" كمساعد صيدلي في مستشفى الأمير سلمان بالرياض، ثم بعد سنة من العمل حاول إكمال دراسته لكن إدارته المباشرة لم توافق، بيد أنه لم ييأس بل كرر المحاولة مرة أخرى بعد سنة، ووجد التجاوب من قسمه، لكن إدارة المستشفى لم توافق، حينها سخر الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الزميل الصيدلي فهد المسعود ـ رحمه الله ـ الذي ساعده على الحصول على البعثة الداخلية.
وهكذا تحقق حلم "خليفة" الجامعي، ولكن بعد سنوات طويلة، فبدأ دراسته عام 1416، واستطاع تجاوز فترة اللغة الإنجليزية رغم صعوبتها، كون دراسته كانت باللغة العربية في المعهد الصحي، لكن العائق كان في الكيمياء والفيزياء اللتين كانتا لا تدرسان في المعهد أصلا!. استطاع تجاوز الفيزياء بصعوبة، لكنه رسب في الكيمياء.. نعم رسب لأول مرة في حياته، كانت كبوة كبيرة أثرت كثيرا على معدله التراكمي، غير أنها كانت دافعا لمزيد من الجد والاجتهاد وبدعاء والديه، استطاع أن يرفع معدله التراكمي إلى 4.44 من5 وأن يتخرج الأول على كلية الصيدلة عام 2001!.
بعد تخرجه وبمعدل مرتفع أضحت فرص إكمال الدراسات العليا تلوح في الأفق، لكن كونه الابن الوحيد للعائلة، ومعيلها الأساسي جعله يصرف النظر عن تلكم الفرص، وأن يبحث عن أخرى محلية، فعاد لمكان عمله الأول، غير أنه اصطدم بعدم تعديل وضعه الوظيفي! لذا اتجه إلى مستشفى الملك فيصل التخصص ومركز الأبحاث، والتحق بقسم تحضير المواد الصيدلانية المشعّة، وصدف أن كان برنامج الصيدلة السريرية يتلمس بداياته، وهو برنامج يعادل الماجستير المهنيّة، حاول الالتحاق لكن لم يكتب له التوفيق، حتى إنه بقي احتياطا لأي شخص ينسحب من البرنامج، الأمر الذي لم يحدث.
لم يتخل "خليفة" عن طموحه العلمي، فانتقل بعد عام إلى مستشفى الملك فهد للحرس الوطني أواخر العام 2002، وقدم من جديد على برنامج الصيدلة السريرية العام، حتى قُبل العام 2004، وقام خلال فترة التدريب بإنجاز دراسة علمية بالتعاون مع الدكتور يوسف العولة، حول الأسباب المؤدية للتنويم من خلال قسم الطوارئ نتيجة مشاكل متعلقة بالأدوية، حققت أصداء جيدة، وحصلت على المركز الثالث في يوم الطبيب الثامن بمدينة الملك عبدالعزيز الطبية، ونشرت في إحدى المجلات العلمية المحكمة، بعد تخرجه بعد عامين عاد إلى عمله كصيدلي، وتدرج في المناصب الإدارية والفنية، حتى أضحى مسؤولا عن التدريب والتطوير في الخدمات الصيدلية.
لكن عشقه للصيدلة جعله يترك المنصب الإداري، ويعود إلى العمل في قسم الصيدلة السريرية، وبالذات في وحدة زراعة الكبد، وبعد افتتاح كلية الصيدلة في جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية استقطب محاضرا بداية العام 2012، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، ففرص الابتعاث الخارجي متاحة لمن هم في المستوى العلمي لخليفة، لكن "خليفة" ما يزال يراعي ظروف أسرته، فاختار الدارسة المحلية في تخصص زراعة الأعضاء، إذ بدأ منذ شهر أكتوبر الماضي دراسته، تحت إشراف د.عبدالكريم البكيري.
ينشط حاليا الصيدلي العصامي "خليفة الذياب" @KhalifahAlThiab في توتير، ويقدم خلاصة علمه وتجربته المثيرة، وهو لا يعلم أن هناك أناسا كثيرين ـ قد لا يعرفهم ـ يدعون له بالتوفيق والنجاج، فهو لم يضح لأجل عائلته فقط، بل كان يقدم كل شيء للآخرين دون مقابل، وها هو يصل إلى أعلى المناصب، صحيح بجهده وعرقه، لكنني أعتقد أن تضحيته ومن ثم دعاء الوالدين هما السببان الحقيقيان وراء كل هذا.