السينما الواقعية لها حضورها وجمهورها العريض أيضا. ميزة هذا النوع من الفنون هو اقترابه الكبير من الحياة المباشرة للناس. هذا المستوى من الحياة رغم أنه قريب ومباشر إلا أننا نخطئ كثيرا لو اعتقدنا أنه بسيط وسهل الفهم. الحياة الواقعية مركّبة ومعقدة ويغيب عنّا الكثير من معانيها، والفن هنا يقوم بعمل مرآة من نوع خاص يمكن أن تساعدنا في رؤية تفاصيل وزوايا لا تقع عادة تحت منظارنا اليومي المباشر. فاليومي المباشر غير الفني محجوب بغطاء العادة، مما يجعلنا نمرّ عليه سريعا ودون تركيز. هو أيضا محجوب بانحيازاتنا، حيث ترتكز نظراتنا عادة على الزوايا التي نريد ونرغب ونتجاهل الزوايا التي قد نرى أنفسنا والآخرين منها بشكل أفضل ولكنها زوايا غير مريحة.

الفن الواقعي يخرجنا من هذه الحسابات ولكن ليس بعيدا فهو يبقينا في ذات الإطار ولكن يفتح لنا مجالات للرؤية لا تتوفر عادة في الحياة المباشرة. من هذه المجالات أن نرى أشخاصا لا نراهم عادة، ليس لأنهم غير متواجدين، ولكن لأن تصميم حياتنا الاجتماعية يصرف أنظارنا عنهم باستمرار. الفن هنا بوّابة للتواصل والحوار مع من يصعب علينا التواصل معهم مباشرة، ومع الجوانب التي لا نحبها من شخصياتنا الخاصة. الفن الواقعي فرصة لكي ترى نفسك أيضا. متابعة الفنون تعطينا فرصة الصمت والإنصات والتعاطف. فيلمنا اليوم ينتمي لهذا اللون من الفنون فهو ينتمي للفنون الواقعية التي تحاول الكشف عن تعقيدات الحياة المباشرة لشخصيات ليست غريبة أو عجيبة، بل شخصيات تنتمي لما يمكن وصفه بالإنسان العادي والطبيعي. الإنسان الذي يشبهنا كثيرا ويفلت غالبا من ملاحظاتنا وانتباهنا. بطلة هذا الفيلم هي الفنانة الأميركية الشهيرة ميريل ستريب المولودة في نيوجيرسي سنة 1949 لأم مشتغلة بالفنون وأب طبيب وعاشق للفنون أيضا. ستريب متزوّجة من النحّات دون جمّر ولديها أربعة أولاد يشتغلون بالفنون كذلك.

تعتبر ميريل ستريب إحدى أهم شخصيات السينما العالمية ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين إلى اليوم، مما جعلها تحصل على أرقام قياسية في الترشيحات للجوائز المختلفة. تمتاز ستريب برأيي بكونها أنثى فائقة القدرة على التعبير، لها قبول مباشر وممثلة ذات قدرة هائلة على أن تكون طبيعية ومباشرة وشديدة الدقة في أداء الشخصية التي تقوم بها. تتمتع بموهبة عالية في تمثل الشخصيات والوصول إلى مسافات عميقة في داخلها. لعبت ستريب عدداً كبيرا من الأدوار المهمة في تاريخ السينما مثل أدوارها في أفلام "كرامر ضد كرامر" و"خيار صوفي" و"على طريق مادسون"، "الساعات" ومؤخرا في فلم "الشك" الشهير وفيلم "المرأة الحديدية" تاتشر، والذي حصلت فيه على الأوسكار كأفضل ممثلة رئيسية. لا تزال ستريب تواصل عملها بهمة ونشاط وأداء يتفوق على نفسه باستمرار. في الفترة الأخيرة وبسبب عامل السن أصبحت ستريب تؤدي غالبا دور الأم أو المرأة الكبيرة، ومع إتقانها بشكل مميز للهجات المختلفة فإن هذه الأدوار غالبا ما كانت قريبة لقلوب المشاهدين وأذواقهم.

في فيلمنا اليوم PRIME تقوم ستريب بدور مستشارة نفسية لها طبيعتان، فهي من جهة مستشارة نفسية تؤمن بالعلم وبالقدرة الإنسانية على الانفتاح والتجاوز وتدعو للإيجابية وتعزز من مشاعر الحب والعواطف التي يجب أن يتمسك بها الإنسان ويفعّلها باستمرار. وهي من جهة أم تقليدية جدا، من أسرة يهودية تمثّل أدوار الانغلاق، فهي تصرّ على ألا يتزوج ابنها إلا من عائلة يهودية وغيرها من السلوكيات المحافظة التي تناقض دورها المهني السابق. الإنسان لديه قدرة عجيبة على التناقض دون الشعور بأزمة من خلال قيامه بعدد من الأدوار المختلفة التي يحاول الفصل بينها قدر الإمكان، وهذا ما قامت به ليسا ميتزغرت (ميريل ستريب) في الفيلم على مدى سنين طويلة. كانت ليسا ترتدي قبّعة الأخصائية النفسية أحيانا ولكنها تخلعها حين تعود لممارسة حياتها التقليدية لترتدي قبّعة الأم التقليدية الحريصة على الانسجام في تراث وعادات معيّنة، لكن الأمور لن تستمر بهذا الشكل طويلا، فالتناقضات يمكن احتواؤها من خلال عملية الفصل بين الحياة الأسريّة وبين الحياة العملية، أي بين الفرد في مجاله الخاص والفرد في مجاله العام، ولكن أحداثا ما تجعل من التقاء التناقضات أمرا حتميا ولا بد من مواجهته وبالتالي لا بد من حل هذا التناقض الذي يعيشه الإنسان. الحياة الاجتماعية يمكن فهمها أكثر من خلال لعبة القبعات التي نرتديها حسب الموقف وقدرتنا على الوصول لمعادلة منسجمة بين هذه الأدوار المختلفة. حبكة الفيلم تتحدد في الموقف الذي يتصادم فيه دور المستشارة النفسية مع عاطفة الأمومة. لن أحكي هنا هذا الموقف لكيلا أفسد متعة الإثارة لمن أراد مشاهدة الفيلم، لكن الفيلم يدخل مع هذه المرحلة سلسلة من الأحداث المعبّرة والتي لا تخلو من طرافة أجاد فيها أبطال العمل أوما ثورمان وبراين جرين برغ.

حالة الاصطدام الداخلي التي يعانيها الإنسان حين تتواجه تناقضاته هي حالة تحتمل النتيجة السعيدة كثيرا، باعتبار أن هذه الحالة تضطر الإنسان لمواجهة ما كان يهرب منه كثيرا وحسم ما تجنّب كثيرا حسمه. في حالة ليسا كان التراث التقليدي هو العائق الكبير أمام انطلاقها وتخلصها من أزمتها الأساسية. في الفيلم كشف دقيق لهذه الحالة وتصويرها من خلال سلسلة من المشاهد المعبّرة والكوميدية. طبعا في الفيلم خيوط لحكايات أخرى، لكنني هنا اكتفيت بخط الأم والمستشارة النفسية ليسا ميتزغرت، الرائعة ميريل ستريب.