حين يواجه المرء أمورا يصعب عليه فهمها، أو تشكل له معضلة فكرية تتعارض مع كل مهارات المنطق التي يمتلكها، يحاول أن يبحث، بدءا بما يحتويه مخزونه المعرفي، عن تفسير يستطيع العقل أن يستوعبه، وقبل الإجابة بالطبع يجب العمل على البناء الصحيح للسؤال، حتى يستطيع أن يحوله إلى مشكلة يقوم بتحليلها إلى عناصر تسهل عليه تحديد نقاط التركيز، وبالتالي لا يضيع في متاهة غزارة المعلومات وتنوع المجالات والآراء التي تتناول القضية قيد البحث، وهذا الطريق الذي سلكته من أجل أن أستوعب -أو على الأقل يتقبل عقلي- فكرة احتواء مجموعة ما، كبيرة تصل إلى مستوى جماهير، أو متوسطة لتصل إلى مستوى أتباع، أو صغيرة ولكنها منبثقة من مجموعات أكبر، كيف تضم في محتواها كل هذا التنوع من البشر من حيث الخلفية الفكرية والثقافية والأكاديمية والاجتماعية والعقائدية؟! كيف انصهر المفكر مع الجاهل، الأخلاقي مع اللاأخلاقي، الإصلاحي مع المدمر، الوسطي مع التكفيري، في بوتقة واحدة تسير بلا وعي أو تفكير أو تدقيق أو حتى مراجعة؟!
إذا عندي جماهير أو مجموعات من جهة وتحكم وانصهار من جهة أخرى، مفردات داخل المشكلة جعلتها مفاتيح البحث مبدئيا، وهذه بدورها حددت لي مجالين للبحث من خلالهما؛ علم الاجتماع وعلم النفس، ومن قام بجمع المجالين أو قارب بينهما في معالجته لمفاتيح مفردات البحث؟ وجدت من ربط بينهما في عنوان كتاب تناوله الكثير بالدراسة والتحليل والنقد: "سيكولوجية الجماهير"، لغوستاف لوبون، صدر عام 1895، منهم من اعتبر ما جاء به على أنه وجهة نظر عالم متعال يقدم معلوماته بفوقية واستعراض الأساتذة على القراء، ومنهم من اعتبر استخدام النازية لما جاء في الكتاب كاستراتيجيات للتحكم بالجماهير كنقطة قوية ضده، ولكن منهم من اعتبر أن الكثير مما جاء فيه يلامس الواقعية، وخاصة الذين تناولوا الكتاب بعد اجتياح ما سمي بـ"الربيع العربي" لعدة بلاد من الأمة العربية، المهم هنا أنني حين قرأت العديد من هذه التحليلات، وأعترف هنا بأنني لم أقرأ الكتاب.. بعد، ولكن مما وجدته مكررا من فكره داخل كل منها، استطعت أن أسير في طريق الفهم والاستيعاب، ليس كليا ولكن على الأقل وضعني على أقرب طريق لمواجهة ما يؤرقني فعلا؛ حين يستخدم من نعتبره قدوة وأخلاقيا عبارات غير أخلاقية في مواجهة قضية اجتماعية، مثله مثل الكثير من الذين نعرف عنهم عدم الالتزام بأي معايير أخلاقية في الحوار أو المواجهة، وحين تجد أن من ينتمي إلى الوسطية وينادي بالاحتواء والمحبة والسلام يقف ليدافع ضمن جمهور كبير، عن مجموعات تكفيرية إرهابية، وحين يخرج إليك من ليس له دور أو لون أو قضية لينضم لطابور مندفع في الهجوم لا يهمه سحق كل من يقف في طريقه، المهم أن ينتصر لشعارات وأفكار يكررها دون تدبر أو توقف للمراجعة، حين تجد من يشعل النيران يعتبر وطنيا ومن يحاول الإيضاح، يصبح عدوا مجردا من الوطنية، بل الإنسانية، وربما من حقه في الحياة!
خلاصة كتاب "لوبون" حسبما قدمته الدكتورة حنان هلسة، وهو ما وجدته في الكثير من أوراق العمل أو المقالات العربية أو الإنجليزية، أن: "الجمهور السيكولوجي (النفسي)" هو جمهور منظّم له روح جماعية وخصائص محددة، وفيه تذوب الشخصية الفردية الواعية لصالح الروح الجماعية، ليتشكل تركيب جديد لا يعتبر حاصل مجموع أو متوسط السمات الفردية لكل شخص. فالفرد عندما ينضوي في جماعة يشعر بالقوة فينصاع لغرائزه عن طوع واختيار، لأنّ الجمهور لا تردعه المسؤولية كما تردع الفرد، وهو في الجماعة معرّض للعدوى من أي فعل أو عاطفة تتضخم لديه بسهولة فتجده يقوم بما لا يميل إلى فعله منفردا، فهو كالمنوّم مغناطيسيا يفقد شخصيته الواعية. هذا الجمهور في مجموعه يتسم بالنزق، والبدائية، والتبسيطية، والقابلية للتحريض، والسذاجة، والتطرف في العواطف، والافتقار إلى ملكة النقد، والتعصّب. وقد تكون نتيجة ذلك أفعالا إجرامية، أو أفعالا بطولية، بحسب المحرّض. والجمهور لا يفهم المحاجّة العقلانية، بل يفهم الآراء المبسّطة عن طريق الكلمات والشعارات التي تبثّ صورا في مخيلته ليست بالضرورة أن تكون مترابطة عقليا. ومن يريد التأثير في الجماهير وتحريكها عليه أن يتقن فنّ استخدام الكلمات والشعارات، وأن يتجنب المحاجة العقلانية، وأن تكون له كاريزما تقوّي آراءه، وأن يعمد إلى استخدام التوكيد والتكرار بكثرة كيما تنتشر آراؤه في الجماهير بفعل العدوى".
لا أحتاج لشرح كل نقطة مما جاء في الخلاصة، ونستطيع بقليل من دراسة الواقع وما يجري حولنا، إسقاط العديد من النقاط التي تطرق لها "لوبون" على الأحداث، ليست المحلية فقط بل الإقليمية أيضا، المهم هنا بعد أن تتضح الصورة أمامنا، نستطيع أن نبحث عن المدخل؛ بحيث نوقف هذ المد أو الأقل نقلل من تأثيراته السلبية على مجتمعاتنا العربية، فالتحريك والتأثير لم يعودا وجها لوجه بل عبر الأثير ومن أبعد نقاط العالم وأقربها، كل ما أريده منكم أن ننتبه.. وأن نفكر سويا، فالمعرفة أول خط للمواجهة.