مهما كانت نتائج أهدافها وعواقب أفعالها فإن مصائب أميركا كانت وما زالت تهون أمام نظرة عتاب من إسرائيل. لم يشهد تاريخنا الحديث دولة عظمى مثل أميركا مُسَيَّرة ومستباحة من قبل دولة صغرى مستهترة مثل إسرائيل، فالاستخدام الأميركي الجائر لحق الفيتو 83 مرة في مجلس الأمن، وانحياز قراراته 43 مرة لمعارضة الحقوق العربية المشروعة وتشجيع الممارسات الإسرائيلية الشاذة، تساهم في انتحار أميركا. كما لا توجد في عالمنا اليوم دولة مثل أميركا تلعب على المكشوف مع حلفائها وأعدائها دون حسيب أو رقيب، فالتجسس التقني على هواتف 35 رئيس دولة، منها 17 دولة حليفة من دول الاتحاد الأوروبي وجنوب أميركا، وارتفاع وتيرة العقوبات الأميركية إلى 47 نوعاً من المقاطعة الاقتصادية المفروضة على 19 دولة، جميعها تقضي على ما تبقى من مصداقية أميركا وتسهم في تردي أوضاعها السياسية وعلاقاتها الدولية.

أثناء إنشاء دولة إسرائيل، لاحظت الصهيونية العالمية أن أميركا، التي باتت أقوى الدول على وجه الأرض، لا زالت تعادي اليهود وترفض التعاون معهم. قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية رفضت أميركا منح حق اللجوء السياسي فيها لحوالي 1000 يهودي هربوا من الاضطهاد الأوروبي، وكانت الإدارة الأميركية آنذاك معارضةً للهجرة اليهودية إلى فلسطين ورافضةً لمنح اليهود أي معاملة تفضيلية. وفي أوائل النصف الثاني من القرن الماضي أعلنت 14 ولاية أميركية رفضها لتوطين اليهود في مدنها وقراها ومنعتهم من مزاولة الأعمال فيها، مما دفع اليهود المشتتين إلى توحيد صفوفهم وإنشاء منظماتهم وتأمين مستقبلهم.

بدأت الجالية اليهودية في أميركا الالتفاف حول وسائل الإعلام والتأثير عليها لنشر ثقافة الهولوكوست وعرض أهواله من خلال الفضائيات والأفلام والمسرحيات والكتب، بهدف التوقف عن مناهضة اليهود وإضفاء البراءة على أفعالهم وتحريم انتقادهم. كما استخدمت الجالية اليهودية نفوذ الأقوياء في أميركا وأوروبا للدخول في المجالات الاقتصادية والثقافية والفكرية والسياسية والمالية، ليحقق اليهود المردود المادي الأكبر من عمليات اندماج وإعادة تنظيم الشركات الأميركية والأوروبية العملاقة. اليوم أصبح اليهود يشكلون 52% من بليونيرات أميركا و32% من بليونيرات أوروبا و25% من صفوة رجال الصحافة و19% من رؤساء المنظمات الكبرى و16% من المناصب القيادية الرسمية. كما أصبحوا ثاني أكبر المستثمرين في وسائل الإعلام الأميركية ليديروا أكبر ثلاث قنوات فضائية وأربعة من أكبر أستوديوهات السينما وستاً من أكبر دور الصحف، علماً بأنهم لا يشكلون سوى 3% فقط من سكان أميركا. وتفتخر الجالية اليهودية اليوم بأن لديها 50% من أفضل 200 مثقف أميركي و20% من أساتذة الجامعات الأميركية الرئيسية و40% من شركاء المكاتب القانونية الكبرى و59% من الكتاب والمنتجين، الذين يسهمون بحوالي 50% من أموال الحملات الانتخابية الأميركية.

ولمتابعة توظيف هذه المكاسب لصالحها، قامت الجالية اليهودية الأميركية في منتصف عام 1982 بتشكيل مؤسسة "متابعة الدقة لتقارير الشرق الأوسط في أميركا"، وأطلقت عليها اسم "كاميرا"، وذلك لمراقبة وتعزيز التغطية الدقيقة والمتوازنة لصالح إسرائيل، والرد على ما تراه تحيزاً ضدها في وسائل الإعلام. اشتهرت مؤسسة "كاميرا" بمراقبة كل من يعادي الصهيونية والسامية، من خلال مشاركة 65.000 موظف ومناصر لإسرائيل، ليعملوا في فروعها بمدن نيويورك وشيكاغو وواشنطون ولوس أنجلوس وميامي. وتضم مؤسسة "كاميرا" 14 لجنة من لجان مكافحة التشهير والاعتداءات الدعائية ضد إسرائيل في الجامعات الأميركية، حيث تقوم بتشغيل الطلاب في50 حرماً جامعياً للحصول على المعلومات الدقيقة عن الأشخاص والأفلام والكتب التي تتناول الأفكار المغلوطة عن إسرائيل، وتقوم بملاحقتهم قضائياً. كما قامت مؤسسة "كاميرا" بمشاركة دور النشر الأميركية والأوروبية العريقة للتأكد من عدم نشرها للمعلومات الضارة بإسرائيل.

قبل عامين نشرت مؤسسة "كاميرا" مقالة تنقد فيها بشدة التقرير البحثي، الذي نشره أستاذ جامعة هارفارد "ستيفن والت"، وأستاذ جامعة شيكاغو "جون ميرشيمير"، عن اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأميركية الخارجية. في مقالتها احتجت المؤسسة لدى الجامعتين بأن التقرير البحثي مليء بالأخطاء السياسية والاقتباسات غير الدقيقة والمصادر غير الموثوقة، إضافة لتعارض التقرير مع المقاييس العلمية الأساسية والأعمال الجادة السابقة في هذا الموضوع. هذا النقد حدا بالجامعتين إلى التخلي عن الأستاذين وإزالة شعاريهما من على غلاف التقرير.

لم تكتف ‍مؤسسة "كاميرا" بقوتها الخارقة في المجتمع الأميركي، بل قامت في عام 2007 بتأسيس لجنة "قوة الدفاع اليهودي على الإنترنت" وجندتها بنحو 6500 من الخبراء الذين تم توزيعهم على فرق عمل تتقن كافة اللغات، بما فيها اللغة العربية، ويتقاضون مرتباتهم من شركات أميركية وأوروبية وإسرائيلية. تصب مهمة الخبراء في التجسس على الهواتف ومراقبة شبكات الإنترنت وصفحات التواصل الاجتماعي ومهاجمة المواقع المعادية لإسرائيل واليهود في جميع أنحاء العالم. وتركزت جهود الخبراء على البحث في منتديات الحوار والمشاركة في التعليقات بصورة مدروسة وممنهجة لتحسين صورة إسرائيل، أو إفراغ صفحات المنتديات من مضامينها وتحويلها إلى حوارات عقيمة لقلب موازين المناهضين لإسرائيل والإبلاغ عنهم تحت ذريعة معاداتهم للسامية ونشر التحريض ضد اليهود. كما يقوم هؤلاء الخبراء بنشر الحوارات التي تغذي الطائفية والكراهية بين الطوائف الإسلامية والمسيحية ونشر الإشاعات في دول العالم، وبالأخص الدول العربية.

ممارسات مؤسسة "كاميرا" تتم بموافقة الإدارة الأميركية وتحت أنظار الكونجرس الأمريكي، ولن يكون مستغرباً تجسس المؤسسة على هواتف زعماء العالم، فأميركا على استعداد تام للانتحار لتعيش إسرائيل.