لماذا عندما يتوفى الله أديبا أو مفكرا أو كاتبا تنبري الأقلام للكتابة عنه فور الإعلان عن موته؟ هل هو نوع من التأبين، أم أنها عادة اختصنا الله بها دون سائر الأمم، فتجد الصحف جميعها ولأيام متتابعة تطفح بمقالات عن الشخصية المتوفاة، الغائبة عن المشهد برمته، الغارقة في صمت الأفول وجلال استكانة الروح وطمأنينتها.

لماذا تسري رعشة الكتابة النادبة أو الباكية وحتى الشامتة، كالهشيم تجتر في أعمدة قصيرة أو مساحات محددة من صحفنا اليومية سيرة هذا الرمز، يتبارى أصحابها في الكشف عن سر عبقريته، وخصاله، وإنجازاته؟ لماذا لا يشحذ الأصدقاء أو الأعداء أفكارهم وذاكرتهم عن المرحوم إلا ساعة الموت؟ هل الموت مناسبة للكتابة أم للصمت؟ وهل هناك ما هو أجمل من الصمت المندى بالدموع نذرفها حزنا عليه، واحتراما وإجلالا لشخصه بعيدا عن المزايدات، والتباري في نبش فضائله، أو التذاكي في نهش لحمه وتغليف ذلك بعبارات الحزن والتباكي؟

لماذا لا يصمت هؤلاء الذين لم يحلُ لهم الخوض في فكر القصيبي وتوجهاته إلا بعد رحيله المر؟ هل هذا هو الوقت المناسب لمناقشة فكر القصيبي، وأدب القصيبي، وملة القصيبيي؟ هل مناسبة الموت هي مناسبة للتأمل والترحم والاستغفار، أم مناسبة للكتابة عن الفقيد الراحل وإلقاء الضوء عليه، وهو الذي شبع أضواء وشهرة في حياته استحقها بجهده ونبوغه ؟ أوليس الموت هو الراحة الأبدية لهؤلاء الأفذاذ؟ لماذا نصر إذن على تعكير صفاء اللحظة الخالدة بضجيج الكتابة التي خرج بعضها من سياق الحزن والتأبين إلى حضيض التشفي المشين؟ ما من شك أن رحيل رمز من رموز الأدب ، ونجم ثقاقي وإداري كغازي القصيبي هو حدث جلل يستحق الوقوف عنده، لكن بمعزل عن جميع الإسقاطات الشخصية، والقضايا الجدلية العالقة،لأن مكانها ليس في سرادق العزاء بل في صفحات الكتب، ومجلدات البحث، ومنابر المؤسسات الثقافية، فمؤلفات الكاتب تظل موضوعا للنقد والتحليل حتى بعد موته، ولا معنى في نظري لتسخير مناسبة الموت وتكثيفها بالرؤى الجاهزة والعجلى في حق الراحل وكتبه، وكأنما هي الفرصة الوحيدة للكتابة عنه. وللأسف فإن هذا المشهد التأبيني العجيب في صحفنا يتكرر مع كل شخصية مشهورة أو رمز من رموزنا وكأنها تزفه إلى مثواه الأخير، وقد كادت تنساه قبل موته.

ورغم سوداوية هذا التقليد الجنائزي ، إلا أنه كان أخف وطأة مما لفظته الشبكة العنكبوتية وما نفثه خفافيشها . تألمت وأنا أقرأ ما كتبه بعض الهمازين المشائين بالنميمة في غازي القصيبي بعد موته، التي يشتم منها رائحة الشماتة والعداء المؤدلج، بل وتعداه إلى قلب الحقائق وتحريف النصوص، وتضمين العبارات المنمقة بما يؤيد اتهاماتهم المبطنة له وتأكيد صدق ما استعدوه عليه .

فأين كان هؤلاء إبان حياة الفارس حين كان سيفه مسلطا ضد كل ظلامي.