بكل الألم هتفت: "هل عُدمت المروءة في مجتمعنا؟"، فقد كان مقطع الفيديو المنتشر حيال تحرش المراهقين بخمس من الفتيات في (مجمع الظهران)؛ صادما جدا لكل من شاهد ذلك.

الكثير من الزملاء كتبوا عن همجية أولئك الشباب، والسلوك المتخلف الذي كانوا عليه وهم يتحرشون بفتياتنا هناك، ولكن ما لفت نظري وآلمني أكثر من سلوك المراهقين المشين؛ جمهرة الناس التي تتفرج على هذا التحرش، ولم تأخذ الحمية والنخوة العربية والدينية أحدا منهم، ليقول لأولئك المراهقين: "كفوا عن هذا الغيّ!!" ويحمي تلكم الضعيفات اللواتي انزوين وتصاغرن وهربن من تلك الملاحقة الهمجية.

عدت بذاكرتي لحارتي الشعبية في مدينة (الطائف)، حيث ثمة تقاليد توارثناها عن كبار "عيال الحارة"، وهي بالمناسبة تسربل كل حواري مدن الحجاز، بأن أي امرأة أو فتاة في الحارة، من واجبنا حمايتها حتى تصل بيتها. وكنا نتبعها من بعيد -حميّة وشهامة فقط- حتى تدلف لمنزلها، بل إن الجار كان يأمر وينهى ويوجّه كل من في الحارة، شبابا كانوا أم فتيات، دون أي اعتراض من الوالدين. وبقيت في نفوسنا تلك التقاليد –يقينا أنها في كل مدن بلادي وإن اختلفت صورها- حتى وإن استترت مع هذا الانفتاح المجتمعي، ولكن لم أتصور أبدا أبدا أن يصل الحال بالمجتمع السعودي، إلى أن يرى تحرشا علنيا سافرا، مثل الذي رأيناه في (مجمع الظهران)، والناس تتفرج على هؤلاء المراهقين، ولم تتحرك في أي أحد منهم نخوة المجتمع السعودي وأصالته للدفاع عن فتيات ضعيفات.

سأعترف -بكل أسى- بأنني كنت متقبلا وجهة النظر التي تقول بإمكانية أن تقود المرأة السعودية سيارتها، وفق بعض المعايير والضوابط، كأن تكون بين المدن فقط، وفي خلال ساعات النهار، وللمرأة التي فوق سن الـ35 عاما، ولكن مقطع هذا الفيديو صدمني جدا، ما جعلني أتراجع عن تقبل وجهة النظر هذه، حيث إنني تخيلت كيف ستفعل زمرة المراهقين هؤلاء، بامرأة تقود سيارتها آمنة مطمئنة، ويرميها حظها العاثر في أحد الأزقة لينفرد بها هؤلاء الوحوش، وقد رأيت بأمّ عيني بعضهم، يُخرجون زوجة من السيارة عنوة وهي بكامل حجابها تركب مع زوجها إبان احتفالات اليوم الوطني قبل أعوام، وأوقعهم القدر في ذلك الطريق الذي أغلقه هؤلاء الشباب تماما، وأوقفوا السير فيه، وهم يتراقصون بذات تلك الهمجية على أسقف سياراتهم.

بكل الصدق أنادي أحبتنا من أخواتنا وإخواننا الذين ينادون بحق المرأة في قيادة السيارة بالتريث قليلا، وأن تحتشد أصواتنا للمطالبة بسن قانون تفصيلي صارم للتحرش، وربما نبدأ من قانون "الحماية من الإيذاء" الذي أقرّ، للمطالبة بإنزال العقوبات الصارمة جدا بهؤلاء المتحرشين الذين لم يجدوا من يردعهم، والتشهير بهم في الصحف كي يكونوا عبرة لغيرهم، وللأسف هم تكاثروا كالجراثيم في المجتمع، بسبب أمنهم من العقوبة الرادعة وعدم التشهير.

ليست الممانعة التي يقوم بها المحافظون حيال قيادة المرأة للسيارة، مجرد ممانعة عناد أو تحد، بل فعلا هم يرومون صون المرأة من أن تقع فريسة لمثل هؤلاء، وأقول هذا الكلام، ولي مع أحبتي جلسات حوار طويلة حول موضوع قيادة المرأة، لأنني كنت أرى إمكانية أن تقود وفق بعض المعايير، وكانوا يسوقون لي مثل هذه الحجج، التي آمنت فعلا بها الآن، مكررا دعوتي للزميلات والزملاء ممن يرون حق المرأة في أن تقود؛ أن تجتمع أصواتنا كي نذلل تلك المصاعب التي تنتظرها أولا، ومن ثم يمكن طرح مثل هذا المطلب، بعيدا عن جعله موضوع تجاذب وحرب بين التيارات. ولعل نظرة متأنية بتوافرنا على أعلى نسبة حوادث في العالم، حيث يفقد 17 إنسانا على أرض المملكة حياته بفعل حوادث السيارات؛ تجعلنا نتمهل ونفكر بمسؤولية وبعد نظر.

سأعود لقضية التحرش التي أراها أولوية عاجلة لأن يتصدى المجتمع لها، وهي قضية مناسبة لأن تجتمع أصوات التيارات الفكرية حولها، فوزارة العدل أوضحت أنه خلال العام الماضي بلغ عدد قضايا التحرش في محاكم المملكة 2797 قضية. وتصدرت محاكم منطقة الرياض بواقع 650 قضية، ثم محاكم منطقة مكة المكرمة بواقع 430 قضية، ثم محاكم المنطقة الشرقية بـ210 قضايا، ومحاكم منطقة المدينة 170، بينما نظرت المحاكم الأخرى قضايا التحرش بالنساء والأحداث بأعداد متقاربة. وتتكون قضايا التحرش من استدراج أحداث، أو مضايقة نساء.

بالتأكيد هذه الأرقام لا تمثل أبدا الواقع الحقيقي، لأن الأعراف والتقاليد المجتمعية، تمنع المرأة أو الفتاة من التبليغ عن حالات التحرش، خوفا من الفضيحة أو تشويه السمعة، وربما أسوق هنا تأكيدا لهذا الكلام، ما قاله المحامي ماجد قاروب في مشاركة له في صحيفة (الحياة)، حيث قال: "المحاكم لا تنظر إلا إلى أقل من 1% من قضايا التحرش، لأنه من الممكن التبليغ في قضية واحدة من مجموع ألف موقف وجريمة تحرش، وردة فعل المجتمع ضد هذه الظاهرة سلبي جداً، وهذا ما جعل الشبان يتمادون في مثل هذه الأفعال، التي وصلت إلى المدارس، والجامعات، والأسواق والأماكن العامة".

في ختام المقالة، سأعود لفجيعتي في ما رأيته حيال موقف جمهرة الناس التي تفرجت على حادثة التحرش، وأسوق هذه القصة الشهيرة في تراثنا العربي، حول ذلك الأعرابي الذي كان يسير في الصحراء ممتطياً ناقته، فإذا به يمر برجل أشعث أغبر يكاد يموت من العطش، نزل الأعرابي من دابته ليسقيه من "القِربة" التي كان يحملها، فإذا بالرجل ينتفض بسرعة ويمتطي الناقة ويهرب بها. فصاح الأعرابي بأعلى صوته "يا أخا العرب ناقتي وما عليها لك، ولكن أستحلفك بالله أن لا تخبر الناس بما حدث". فردّ السارق متهكماً ساخراً: "لماذا، حتى لا تشعر بالخزي بينهم"؟ قال الإعرابي: "لا والله، حتى لا تضيع المروءة في رمال الصحراء فلا يساعد أحد محتاجاً".

ها أنا أصرخ: أيها المجتمع السعودي لا تضع أصالتك ومروءتك.