آهٍ من هذه المرأة، مشيها إِغراء، وضحكها إغواء، وغنجها يذل أعزة، فكم من فارس مقدام وقع أسير عينيها، وكيف بِشاب "هلفوت" في حاضر بائس أن ينجو من حبائلها؟

هذه هي صورة المرأة في عقلية المجتمع الذكوري، إنها فتنة متيقظة كأفعى تتربص لتلدغ سما يذهب العقول، وإن أراد المجتمع أن يخفف من نظرته إليها سيراها باب إبليس إلى الرجل المسكين الذي لا يملك حيلة تجنبه فتنتها مهما كان قويا.

ثقافتنا ملبدة بالأفكار التي تصف المرأة بأنها كل شيء إلا أن تكون إنسانا، قد نصبناها ملكة ثم ألبسناها رداء أفعى، فما أكرمناها كملكة ولم نتجنبها كأفعى، فأين الخلل؟ هل هو في الأدب أم في المواعظ؟ هل هو عِند المتدينين أم عِند الليبرالين؟ من الذي شوه نظرتنا تجاه المرأة؟ إن تراشق التهم بين جميع الأطراف دليل إضافي على أننا غُثاء، وطالما نحن غُثاء فلا بد من الاعتراف بأن الخلل في المنظومة ككل، في الجميع بلا استثناء، وإقرارنا بهذا يعد خطوة أولى للارتقاء، أما انشغال كل طرف بتحميل الأطراف الأخرى كامل الخلل فهذا سيزيدنا استقرارا في الغثاء.

المنظومة ككل، بكل ما فيها من آراء ومعتقدات وأفكار وعادات وتقاليد، حتى القِصص والقصائد، والخطب والمواعظ، وأحاديث المجالِس، كل شيء في الواقع وفي الواقع الافتراضي يخلق في ضمير الذكر وعقله الجاهزية لأن يكون ذئباً بشرياً من حقه أن يفترس، وأنه إذا ما افترس فلن يكون فاعِلاً إنما مفعول به، مغيباً تحت تأثير إغواء الضحية. إن الحيوان عندما يفترس فإنه يفترس ليعيش، إلا أن الإنسان بمُجرد أن يفترس سيتحول فِعل الافتراس لديه هو إلى ما يثير شهوته، بغض النظر عن الضحية وماذا ترتدي أو كيف تصرفت، لأن ما يثيره هنا ليس المرأة ووضعها إنما فعل التحرش!

صحيح أن قضية التحرش بالمرأة موجودة في كل العالم، لكنني لا أعيش في كل العالم، أعيش هنا حيث الجرح، والذي مهما كان صغيراً سيؤلم، والإنسان لا يصرخ لأن جسد غيره قد جُرِح، و"هنا" في هذا المجتمع يبدأ الأمر عندما قام إبليس باستغلال حواء لإغواء آدم حتى يأكل من الشجرة، وينتهي بافتراض أن المرأة إن قادت سيارتها فستنهش الذئاب لحمها كلما بنشر لها كفر، وما بين الافتراضين تتراكم الافتراضات تلو الافتراضات لتُركز في أفهام الرجل أن المرأة ما خلقت في الأرض إلا كفتنة وعليه أن يحذرها. إننا إن لم نغيِر في كل تلك الافتراضات ونبدأ في تصحيحها، فلن يُجدي استحداث قانون يحمي المرأة مهما كان صارما، وجمس الهيئة لن يحمي أعراض النساء طالما كان الخلل في أفهامِنا.

إن الشيء الذي لفت نظري في حادثة التحرش بالنساء في الشرقية أنها حدثت تحت ضوء الشمس! وأن يحدث الجُرم تحت ضوء الشمس، حينها سندرك أن المجرم لن يشعر أنه ارتكب جرما، وأنه أجرم بكل عفوية وتلقائية، "هي أغرته وهو تحرش" هكذا بكل بساطة! ولا يشترط هنا أن تغريه مباشرة لأنه قد يفسِر ضحكها بصوت مُرتفِع أو اصطدامها به بلا قصد، أنه إغراء وإغواء يُمارس عليه، وهو لا يفسِر تصرفاتِها على هذا النحو إلا استنادا على ثقافة مجتمع دفعته إلى هذا، وفي ظل هذه الثقافة فإن القانون لن يفعل إلا ضمان عدم التحرش تحت ضوء الشمس – في العلن-! الشيء الآخر أن المجتمع في الحقيقة لم يستنكر وقوع حادِثة التحرش إنما استنكر أنه "رأى" ما حدث، لهذا طالب الكثيرون بسن قوانين صارمة وبعودة جمس الهيئة لموقعه حتى "لا يرى" المجتمع مثل هذه الحادثة مستقبلا.

وبعيداً عن عالم الأفكار "أدبياً وثقافياً ودينياً" فإن الحياة اليومية بما تحويه من بحث عن رِزق وعمل وتجارة ومسؤوليات أسرية، كل هذا يدخل ضمن المنظومة منبع الخلل - ولتقريب الصورة- فإننا حين نصف الحياة في البادية والقُرى؛ نصفها بأنها حياة بسيطة، والحقيقة أن الحياة في القُرى ليست بسيطة إنما هي حياة متصالحة مع نفسها، لأن المرأة هناك تتشارك مع الرجل في أغلب أنشطة الحياة اليومية، ترعى معه وتزرع معه وتتاجِر مثله، وهذا ما نحتاجه أن تتشارك المرأة مع الرجل في بناء المجتمع، لأنه وبدون هذه المشاركة ومع الإصرار على الحجب والمنع والفصل، فلن يُدرك كل طرف أن للآخر قيمة، وسيجهلان بعضهما جهلاً سيزيد من تقبُل الافتراضات الفوضوية أعلاه، حينها من الطبيعي أن تراه ذئباً بشرياً وأن يراها أفعى، يتحرش بها، ثم يجد في المجتمع من يتساءل: لماذا لا نقول إنها هي من بدأت ولدغته بفتنتها؟

الخلاصة: أن استحداث قانون صارم ليس أكثر من حل سريع رغم أنه مطلوب، إلا أن المطلوب أكثر أن يتم البدء في تغيير المنظومة ككل حتى تكون النظرة الاجتماعية تجاه المرأة أنها كائن اجتماعي إنساني يشارك بقوة في بناء المجتمع، وإلا فستستمر الذئاب تعوي، وسيستمر المجتمع عاجزا إلا عن إخفاء الفريسة!