عندما تفقد البلاد والأمة بأسرها عالمًا كبيرًا كفضيلة الإمام الشيخ أحمد بن عبدالله بن محمد الدوغان، عالم الأحساء المشهور، والفقيه الشافعي الأشهر فإن الكلام والكتابة عن هذه القامة لم ولن يتوقفا أبدا.. الإمام الدوغان ـ رحمه الله تعالى ـ الذي لحق بالرفيق الأعلى مساء السبت قبل الماضي عن عمر يناهز الـ102 عام يعد أبرز علماء الرعيل الأول للحركة العلمية في المملكة، وأحد مؤسسي أهم المدارس الشرعية الرصينة في منطقة الأحساء المشهورة بمدارسها ذات الملامح المتميزة، والتكوينات المختلفة عن مثيلاتها في كافة مدن المملكة.
أكثر من قرن من الزمن أفناه الإمام الدوغان في التعلم والتعليم، والتذكر والتذكير، والنفع والانتفاع، والإفادة والاستفادة، والحث على التمسك بكتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والدعاء إلى الهدى، والدعوة إلى الخير؛ ابتغاء وجه الله ومرضاته، وقربه وثوابه. اليوم برحيل الإمام يستذكر من عرفه، ومن لم يعرفه دور تأثيره على كافة المستويات والأصعدة، فقد جمع الله له مجموعة هامة من المزايا والصفات التي أحاول في مقالي أن أسطر بعضها؛ ليس من باب التأبين والرثاء المجرد، بل من باب التذكير والدعوة للتشبه بهذه القدوة الحسنة. عرف عن الإمام الدوغان بعده التام عن الخلاف والاختلاف، حتى أصبح عَلما على البعد عن الموهمات من الألفاظ والأفعال، وعلما على محاربة ما يدعو إلى الإفراط والتفريط، وهذا هو سر اجتماع كافة أصحاب المشارب السلوكية، والمدارس الفقهية بين يديه. الإمام الدوغان علامة فارقة في إيثار مبدأ السلامة، والبعد عن الجدال والصراعات وإن كان الحق في جانبه، وهذا أيضا هو سر تمكنه من تجديد العلم الشرعي بعمومه، والمذهب الشافعي بخصوصه في الجزء المهم من المملكة. مشهود للإمام الدوغان بين القاصي والداني نفرته التامة من حب الصدارة والرئاسة، والمدح والتبجيل، وقدم أروع الصور في تقدير دور مشايخه الذين علموه، وعدم التقدم عليهم، ولعل هذا هو السبب المباشر في عدم تصدره للتدريس مبكرا.. العمل بالعلم كان ديدن الشيخ، وحكمة الصمت كانت لا تفارقه، والتعليم كان عشقه إلى انقضاء أجله، ولذا لا يستغرب أي متابع لمسيرته كيف وفقه الله إلى النجاح في ترسيخ العلم بالأحساء، وحماية المنطقة من التبديع والتكفير والتضليل؛ بالتركيز على الاستيعاب والوحدة وعدم تسفيه الناس أو تجريحهم.
رحل الإمام الدوغان تاركاً خلفه تركة علمية ثقيلة، وتاريخا كبيرًا من المعرفة، وجملا جميلة من المآثر التي لولاها لم يتمكن من ترسيخ منهجية هي بفضل الله قائمة ومحسوسة في خليفته في حياته، ومن بعد مماته فضيلة الشيخ أحمد البراهيم العرفج، وأبنائه الدكتور عبدالله، والدكتور محمد، والشيخ عبدالعزيز، وقائمة لا تنتهي من ملازميه النجباء ـ وهم كثر ـ الذين يشكلون اليوم أحد أهم مفاصل الوحدة الوطنية والاجتماعية في المملكة، ولا غرابة فقد رباهم الإمام وألزمهم بتقوية الظاهر بالعلم النافع، وتقوية الباطن بالسلوك القويم، وأفهمهم ومن حولهم بالنص والروح أن العالم الشرعي الحقيقي هو من لا يحبسه مذهبه، أو معتقده من البذل والعطاء.. رحمك الله أيها الإمام، وأنزل شآبيب الرحمة عليك، وجازاك عن كلِّ شيء كلَّ خير، والعفو أن سيرتك العلمية الحافلة ليس هنا محل بسط ذكرها، وأن سيرتك العملية الهادئة أكبر من أن تختصر في حدود عدد كلمات المقال.