كثيرون مروا في مرحلة من مراحل حياتهم بتجربة قاسية، اختلفت صورها وآثارها لكنها في جوهرها تجربة واحدة.. من شدة قسوتها لم تجد الإنسانية اسما تطلقه عليها يصور مدى قبحها من اسم أشرس ما في الغاب من حيوانها، فقد جسدت أقبح معاني قانون الغاب بل والحيوانية بعينها، حيث يأكل كبيرها صغيرها ويفتك قويها بضعيفها بلا رحمة أو شفقة أو مراعاة لضعفها، بل وأصبحت تُلقب بالظاهرة نظرا لتزايد شدتها وتسارع انتشارها.
التنمر هو ترجمة للمصطلح الإنجليزي Bullying وهو يعني استخدام القوة أو التهديد أو الإكراه للإيذاء والتخويف من أجل فرض الهيمنة والسيطرة على الآخرين بطرق عدوانية. والتنمر هو أحد أشكال السلوك العدواني، والعدوان مشكلة قديمة قدم نشأة حياة الإنسان على الأرض تجلت في أول عدوان بين ولدي آدم قابيل وهابيل. ويمكن تصنيف السلوك العدواني بأنه تنمر عندما تحكمه ثلاثة معايير: أن يكون الاعتداء متعمداً، وأن يكون متكررا، مع انعدام وجود توازن في القوة، سواء كان حقيقيا أو معنويا.
وهناك خمسة أنماط رئيسية من التنمر، منها ما هو جسدي، لفظي، علاقات شخصية، جنسي، إلكتروني..
وهناك نوع من التنمر يُمارس على مستوى المجتمعات والشعوب والدول ويسمى بالعامية (البلطجة)، لإرهاب الشعوب وإخضاعها بالتهديد للسلطة الطاغية المستبدة، وهو أسوأ وأعنف أنواع التنمر قاطبة.
أصبح التنمر منتشراً في شتى مجالات الحياة من البيت إلى المدرسة إلى العمل إلى الجيش، وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي نصف الأطفال تعرضوا مرة واحدة على الأقل للتنمر خلال المرحلة المدرسية، وأن نسبة 15% منهم يتعرضون لنوع من الضغوط العنيفة بشكل منتظم.
وفي دراسة للدكتورة (Coy, Doris Rhea) عام 2001 بعنوان (التنمر في المدارس) كشفت نتائجها أنه يهرب يوميا حوالي 160 ألف طالب من المدارس بسبب التنمر الذي يلاقونه من زملائهم، ولا ينفصل مجتمعنا العربي والإسلامي الآن ولا نستطيع عزله عن المجتمع العالمي في ظل هذا التقارب الشديد بين الأفكار والمشكلات التي سرعان ما تجوب الكرة الأرضية في دقائق معدودات.
ولذلك فإن الإحصائيات في العالم العربي لا تختلف كثيراً، وقد كشفت دراسة للدكتورة نورة القحطاني في السعودية عام 2008م بعنوان "التنمر بين طلاب وطالبات المرحلة المتوسطة في مدينة الرياض دراسة مسحية واقتراح برنامج التدخل المضاد" عن أن نسبة الطلاب والطالبات في المرحلة المتوسطة الذين يتعرضون للتنمر مرة أو مرتين خلال الأشهر الماضية تصل إلى 31.5 %، وكشفت دراسة تعد الأولى من نوعها على مستوى الوطن العربي إلى أن أسباب الظاهرة تتمثل في أسلوب التربية الخاطئ للأبناء وغياب التوجيهات السلوكية الواضحة من الوالدين وعدم الاحساس بالأمان والاستقرار العاطفي في الأسرة والنزاع المستمر بين الوالدين.
وقد بينت الدراسة أن من العوامل الرئيسية المؤدية إلى التنمر الافتقار إلى سياسات تأديبية وإجراءات واضحة تجاه سلوكيات التنمر وعدم وجود برامج لحل النزاعات تتبناها المدرسة يدرب عليها أعضاء هيئة التدريس وضعف الإرشاد الطلابي وعدم فعالية دور الاختصاص الاجتماعي في مواجهة الظاهرة.
وعادة ما يحدث التنمر المدرسي بعيداً عن الكبار في فسحة المدرسة أو مدخلها أو الحافلات أو دورات المياه أو في الطريق للمدرسة أو البيت.
ومن الأسباب التي تساعد على انتشار التنمر الألعاب الإلكترونية العنيفة الفاسدة وانتشار أفلام العنف بين أبنائنا وأفلام الرسوم المتحركة العنيفة والخلل التربوي في بعض الأسر والعنف الأسري والمجتمعي.
أما التنمر في العمل فهو ظاهرة معروفة حول العالم، حيث تشير إحصائيات مجلة فوربس الأميركية أن 49% من الموظفين الأميركيين تعرضوا أو ما زالو يتعرضون للتنمر في العمل، هذا بالرغم من وجود قوانين صارمة تحمي الضحايا في أميركا، وبالرغم من أنه ليس لدينا إحصائيات دقيقة في العالم العربي، إلا أننا نعتقد أن النسبة لا تقل عن النسبة العالمية، خاصة مع غياب قوانين تحمي ضحايا التنمر.
والمدير المتنمر قد يستخدم أساليب وحيلاً كثيرة يفرض فيها جواً من التوتر وبيئة عمل غير صحية، وتتجلى أقوى صور هذا التنمر بإجبار الموظف على القيام بعمل أو عدة أعمال مجهدة له وربما ليست من اختصاصه أيضاً تحت التهديد بالفصل أو التخويف بالخصميات.
إن الآثار الناتجة عن التنمر عديدة وخطيرة، فقد وجدت دراسة أمريكية حديثة أن الأطفال الذين يكونون ضحايا للتنمر (قبل أن يصبحوا متنمرين) أكثر عرضة بست مرات للإصابة بأمراض خطيرة في وقت لاحق من حياتهم. وذكرت الدراسة أن الباحثين في جامعة وارويك والمركز الطبي في جامعة دوك (Duke) قد أجروا دراسة على 1420 شخصاً من عامهم التاسع إلى عامهم السادس عشر، ثم قاموا بمتابعتهم في سن 24 و 26 من العمر فوجدوهم أكثر عرضة للإصابة بمشاكل صحية في سن الرشد وأنهم أكثر عرضة بست مرات أن يشخصوا بمرض خطير أو يدخنوا بشراهة بشكل مستمر وأن يصابوا بمشاكل نفسية بالمقارنة مع الأشخاص الذين لم يتعرضوا للتنمر أو لم يمارسوه. كما وُجد أن ضحايا التنمر قد يصبحون متنمرين جراء افتقارهم للدعم النفسي الضروري لتكييفهم مع واقعهم.
من الآثار الناتجة عن التنمر طيف واسع من الأعراض النفسية والجسدية على المتنمر والضحية، بل وكذلك على الشهود من اكتئاب ونوبات ذعر وأرق وخوف وقلق ومعاقرة الكحول والمخدرات وفقدان تقدير الذات ومشاكل قلبية، وتمتد عواقب التنمر إلى سن الرشد والكهولة.
هناك دائرة شريرة مغلقة تبدأ بتنمر في البيت من قبل الوالدين أو أحدهما على الآخر أو على أحد الأبناء أو ابن أكبر على إخوته ولا يتدارك أو يتصدى له ويعالج، مما يجعل الطفل في المدرسة عرضة لأن يصبح مهيأً نفسياً لأن يكون ضحية تنمر أو رد فعل عكسي ويصبح هو بذاته متنمراً وكذلك لا يتصدى له ولا يعالج وتستمر الآثار المدمرة للتنمر على كل من المتنمر والضحية والشهود لتنتقل إلى مكان العمل، بل ومجالات الحياة كلها لتصبح صبغة مجتمع متنمر يعيش قانون الغاب أو بالعامية مجتمع تغلب عليه سمة (البلطجة).
إن التنمر بأشكاله المختلفة هو انتكاس للإنسانية وهبوط بها إلى الطباع الحيوانية، فكل أنواع الأذى المتعمد من إنسان لآخر هي إثم عظيم بل وحذر الخالق سبحانه وتعالى الذين يؤذون ويعذبون الناس فقال سبحانه وتعالى "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا"، وفي الحديث القدسي " ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن"، وقال الرسول الكريم "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا".
وقد تعامل خلفاء رسول الله مع حوادث التنمر بحزم وشدة بغض النظر عن مكانة المتنمر، وقصة الفاروق عمر مع عمرو بن العاص فاتح وولي مصر آنذاك أصدق دليل، فقد اشترك ابنٌ لعمرو بن العاص مع غلام من الأقباط في سباق خيل فضرب ابن الأمير الغلام القبطي متنمرا بقوة سلطان أبيه، وعلم الفاروق وتحقق من الأمر، فأمر عمرو بن العاص وابنه أن يحضرا إلى المدينة، وحضر الجميع، فناول عمر الغلام القبطي سوطا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص وقال قولته الشهيرة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتم أحرارا).
وخير ما نختم به موضوعنا اليوم قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).