عندما نتحدث عن مشروع تطوير القضاء، فإنه يتبادر إلى أذهاننا تطويرٌ متكامل لكل جوانب القضاء، وأهمها جوهر القضاء وأنظمته التشريعية، وأما النواحي الشكلية والفنية فإنها قد تكون مشمولة أيضا ولكن ليس بالضرورة.
الذي يحصل ـ وللأسف ـ أن المشروع إياه ليس فيه شيء يُذكر من التطوير التشريعي والنظامي للقضاء نفسه والذي سيؤدي حتما إلى تطور الجهاز ككل كما أن سلامة الأعضاء لا تبدو إلا بسلامة القلب!
سبق أن كتبت كثيرا حول موضوعات مرتبطة بالجوانب التشريعية للقضاء، وكان آخرها مقال بعنوان: (هل تحقق تطوير القضاء؟) قبل قرابة عشرة أشهر، إلا أننا وللأسف لم نلق أي إجابة!
وللأمانة؛ فإن مركز تطوير القضاء قد أظهر مشاريع كثيرة يشير إلى أنها تحت العمل حاليا، وهي وإن كانت جميلة في مجالها إلا أنها كلها تدور حول الجوانب الفنية والإدارية، وهذا بلا شك جيد إلا أنه يبقى "تطويرا فنيا" - إن صح التعبير- وليس تطويرا قضائيا بحتا.
عند الحديث عن القضاء؛ فإنه وللموضوعية يجب استبعاد كتابات العدل نهائيا، فهي وإن كانت جهة عدلية إلا أنها لا تفصل في شيء من القضايا، وبالتالي لا ينطبق عليها مصطلح "قضاء"، ولا يجب أن يتم صرف أي مبالغ مخصصة لتطوير القضاء على جهاز آخر لا علاقة له بالقضاء نفسه، وهذا على أهمية كتابة العدل بلا شك إلا أنه موضوع آخر.
عندما نتحدث عن التطوير التشريعي والتطوير الشكلي أو الفني؛ فإن الفرق يظهر بين الاثنين عندما نقارن بين التطوير في كتابات العدل وبين القضاء، فالمشروع قد ركز على التطوير الشكلي فظهر هذا جليا في كتابات العدل حيث إنه ليس فيها فصل وتشريعات وأنظمة ووقائع .. إلخ، أما الجهاز القضائي فهو أعمق من ذلك بكثير، وهناك جوانب جوهرية في صلب القضاء بقيت عشرات السنين وما زالت مهملة ولم تُعط اهتماما!
لا يزال القضاة أنفسهم ومن ورائهم المختصون باختلافهم من محامين ومستشارين وأكاديميين يتناقلون التعاميم فيما بينهم بشكل شخصي، والتي بعضها له قيمة تشريعية كبيرة، وكثيرا ما يفوت الكثير منها على القضاة أنفسهم والمحامين بسبب سوء النشر وأحيانا تعمد عدم النشر ولا أدري لماذا!
نحن يا جماعة في القرن الواحد والعشرين، ولا توجد لدينا أدوات نصل من خلالها إلى ذلك الأرشيف سوى باجتهادات بعض الفضلاء تصل لمن وصلت إليه والبقية لهم الحجر!
كان من أولى أولويات مشروع تطوير القضاء الاعتناء بالجانب التشريعي كأولوية قصوى، وأن يبدؤوا أولا في ترتيب البنية التشريعية، ولماذا لا يستعينون بجهات استشارية خارجية؟ لماذا لا تتعاقد الوزارة مع أفضل الخبراء من القانونيين والشرعيين لأجل تطوير هذا المرفق العظيم؟
أعود إلى جانب آخر وهو معضلة تفاوت الأحكام القضائية والضبابية في معرفة النظام الواجب اتباعه أو العمل عليه؟ كثيرا ما يكون هناك خلاف حول قضية، ويكون فيها خلاف بين الفقهاء قديما، ولا يمكن التنبّؤ بما سيحكم به القاضي نظرا لعدم تقنين الأحكام لدينا! وقد سبق أن كتبت في هذا أيضا آخرها مقال (تفاوت الأحكام القضائية).
سؤال كبير يعاني منه الكثير؛ ما هي جهود الوزارة في الحد من هذه المشكلة؟
لنتجاوز مسألة التقنين والجدل فيها، إلا أن هناك أساليب كثيرة -على الأقل- للحد من هذه المعضلة من أهمها نشر الأحكام القضائية المؤيدة من الاستئناف. وبالرغم من أن نظام القضاء لم يُعطِ السوابق قيمة إلزامية للمحاكم الأدنى درجة، إلا أنها ستحد بلا شك خاصة أنه بوعي ذاتي ملاحظ من كثير من فضيلة القضاة أصبحوا يراعون ما سار عليه العمل في المحاكم بالشهرة حتى وإن خالف آراءهم الشخصية، ولكن أين جهد الوزارة وتطوير القضاء عن هذا الجانب؟
بنظري أنه يجب نشر الأحكام وترتيبها وتبويبها وتصنيفها ونشرها إلكترونيا وورقيا بشكل دوري، ونصف سنوي بالنسبة للنشر الورقي، وإذا نظرنا لكثير من الأجهزة القضائية حتى لبعض الدول المتخلفة؛ فإننا نجد بونا شاسعا في هذا المجال بالمقارنة بما تم نشره وتوقف منذ عدة سنوات وللأسف!
النشر للأحكام يجب أن يكون دوريا، بل وبمجرد اكتساب الحكم القطعية في سابقة ما؛ فإنه يجب نشره مباشرة - طالما أنها سابقة- من خلال مواقع النشر الإلكتروني، ولا يجوز الانتقاء في النشر لأجل استقرار الأحكام وتعزيز العدالة المنشودة من القضاء.
لماذا لا تحاول الوزارة أن تضع أولويات للإصلاح التشريعي القضائي وتُشرك القضاة بهذا الهم وتقيم ورش العمل والنقاش حول هذا الموضوع المُقلق للكثير والتوعية حوله؟
سمعنا بالمبدأين اللذين صدرا مؤخرا من المحكمة العليا في هذا الصدد، ونتمنى من أصحاب الفضيلة أن يعملوا بشكل أكثر فاعلية وأسرع، فالناس تنتظر منكم الكثير.
وهذه مناسبة لأجل ذكر أن البعض يخلط بين المبادئ والسوابق، حيث إن المبادئ التي نص عليها النظام يُفترض أن تكون ملزمة للمحاكم (وإن لم يُصرّح بذلك النظام)، وهي غالبا يُفترض أن تكون في المواضيع المتكررة والتي يحتاج فيها إلى دراسة أكثر عمقا من مجرد قاض يحكم فيها ويصدقها الاستئناف، بعكس السوابق حيث هي غالبا تبدأ من خلال حكم لقاض بمحكمة ابتدائية وبمصادقة الاستئناف عليها تصبح ملزمة في الكثير من الأنظمة القضائية، وهي ربما تصبح استرشادية لدينا خاصة في حال تم النشر للأحكام.
هناك ملاحظات كثيرة حول الموضوع، بالإضافة إلى الهيكل القضائي وطريقة اختيار ملازمي القضاة وتدريبهم، ولا يتسع الوقت للكثير، ولكن باختصار؛ مشروع تطوير القضاء يحتاج إلى تطوير هو أيضا؛ بأن ينشئ مركزا مرادفا له؛ ليختص فقط بالشأن التشريعي النظامي للقضاء وأنظمته، وليعمل على هذا الجانب الأكثر أهمية، وأتمنى أن نرى نتائج مرضية بإذن الله.