1
قال داعية مصري، كان أستاذاً لبلاغة القرآن بجامعة الأزهر في مقال له، نُشر في إحدى الصحف العربية، إن "جبهة الإنقاذ" التي تحرق مصر حُكمها القتل.
ولكن الدكتور البرادعي (رئيس حزب الدستور)، استنكر وقتها -بداية عام 2013 وقبل أن يصبح نائباً لرئيس الجمهورية، بعد ثورة 30 يونيو 2013- هذا الكلام، وقال: عندما يفتي شيوخ بوجوب القتل باسم الدين، دون أن يتم القبض عليهم، فقل على النظام ودولته السلام. فكم من الجرائم، تُرتكب في حق الإسلام، وباسمه. فما الذي تغيّر في مصر اليوم، وتبدل؟
2
كان الإرهاب، الذي أُطلق عليه كذباً، وزوراً، وبهتاناً، صفة "المقدس"، الشغل الشاغل لكثير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب، خاصة بعد كارثة نيويورك 2001. ومن ذلك، كتاب عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر والناقد الأدبي (روجيه كايوا) (1913-1978) بعنوان (الإنسان والمقدس) الذي صدر عام 2010، في بيروت. ومن ذلك أيضاً، كتاب (العنف والمقدس)، الذي أشرف على تحريره الفيلسوف المصري المعاصر مراد وهبة. وهو عبارة عن مقالات منتقاة، من المؤتمر الرابع للمجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية، والذي أشرف الفيلسوف وهبة على تنظيمه، وانعقاده في روما، تحت عنوان "الشباب والعنف والدين"، تحت رعاية مؤسسة كونراد اديناور الألمانية، وكان مفهوم "المقدس" طاغياً في بحوث المشاركين.
3
والسؤال الآن؟ ما الذي حدث، بعد ذلك، وأدى إلى دخول "المقدس" في علاقة عضوية مع العنف؟ إن الرأي الشائع، عند الجواب، عن هذا السؤال – كما يقول وهبة - يتجه إلى البحث عن العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، من أجل الكشف عن أسباب نشأة تلك العلاقة العضوية. وهو بذلك يردُّ العنف والإرهاب إلى التاريخ والبيئة، وليس إلى أي شيء آخر. فمن المفكرين، من لا ينكر مشروعية ذلك البحث، إلا أنهم ليسوا من أنصار، أن الطفل المولود هو حيوان عاقل، قبل أن يقال عنه إنه حيوان اجتماعي، أو حيوان سياسي، لأن العقل هو الذي يسمح له بعد ذلك، بأن يكون اجتماعياً أو سياسياً. ومعنى ذلك، أن العقل يأتي في الصدارة. وعندئذ يكون السؤال، الذي ينبغي أن يُثار على النحو التالي: ماذا يحدث في عقل الإنسان، عندما يتجه إلى تكوين علاقة عضوية بين الارهاب الدموي العنيف، و"المقدس"؟
4
يعتقد الفيلسوف وهبة أن جواب السؤال السابق، عند المتشددين والمتمسكين بحرفية النصوص. وإذا كان الأمر كذلك، فالسؤال إذن: كيف؟ ويجيب وهبة: إن المتشدد والمتمسك بحرفية النصوص، يرفض إعمال العقل في النص المقدس، أي يرفض "تأويله" (التفسير شرح الألفاظ، والتأويل شرح المعاني) من أجل الكشف عن المعنى الباطن. وفي عبارة أخرى يمكن القول، من أن المتشدد المتمسك بحرفية النصوص، يقف عند حد المعنى الظاهر، أي المعنى الحسي للنص.
وحيث إن المعنى الحسي واحد، ولا يقبل التعدد، فإن المعنى في هذه الحالة، يرتقي إلى مستوى المطلق، لأن المطلق لا يستقيم إلا مع الواحد، وبالتالي تكون الحقيقة واحدة، وليست متعددة.
ومن هنا نقول، عن المتشدد المتمسك بحرفية النصوص، إنه يمتلك "الحقيقة المطلقة"، ومن ثمَّ، فإنه يقف بالمرصاد لمن يناقضها، ويدعو إلى حقيقة مطلقة مغايرة، لأن من شأن هذه الدعوة أن تُفضي إلى أحد أمرين: إما أن تصبح الحقيقة المطلقة نسبية، وإما ألا تكون حقيقة على الإطلاق.
وفي الحالتين، ليس أمام المتشدد الحرفي، سوى الاستعانة بالعنف. إلا أن هذه الاستعانة لن تكون ممكنة، إلا إذا دخل العنف في علاقة عضوية مع ما هو "مقدس"، وهو هنا "الحقيقة المطلقة".
وإذا تفشَّت هذه العلاقة، إلى الحد الذي تصبح فيه الدولة متمثلة لهذه العلاقة، فإنها تتحول في هذه الحالة إلى دولة متشددة، تُفسِّر النصوص تفسيراً حرفياً أساسه العنف "المقدس". وهو ما كانت عليه الدولة المصرية قبل ثورة 30 يونيو 2013، وما نشاهده اليوم من جرائم فلولها. فقد كانت الدولة المصرية قبل ثورة 30 يونيو 2013، تبني ذاتها على أساس العنف "المقدس"، وبَنَّاؤوها هم الإخوان المسلمون، وهو ما نراه يومياً الآن في مصر.
5
يقول الفيلسوف المصري المعاصر، إن على الإنسان ألا يتحرك من الماضي، وإنما عليه أن يتحرك من المستقبل؛ أي من وضع قادم يصوغه في رؤية مستقبلية، تنشد أن تكون متجسدة في وضع يصبح قائماً. وهذا ليس ممكناً، إلا إذا دخل وضع قائم في أزمة، أي في تناقض، وعلى الإنسان بعد ذلك، رفع هذا التناقض، أي إزالته. إلا أن هذه الإزالة، لن تكون ممكنة إلا بإحلال وضع قائم جديد محل وضع قائم قديم.
ولن يتم هذا "الإحلال" إلا بعد صياغة رؤية مستقبلية، نقول عنها إنها وضع قادم. ومن هنا، يمكن القول، من أن ثمة "حواراً" الآن في مصر الدولة، بين وضع قادم، وأزمة وضع قائم. وهو حال مصر في هذا الزمان.