من الموضوعات المهمة التي أثارت سجالاً واسعاً بين غالبية التيارات في المجتمع من فقهاء ورجال دين ومثقفين ومفكرين، قضية “قيادة المرأة للسيارة”، التي يرى البعض أنها أخذت أكثر من حقها في النقاش والكتابة، كما أن هذا الموضوع جاء على حساب قضايا أهم مثل بطالة الجامعيات وحقوق الأرامل والمطلقات.
والحقيقة أن هذه القضية تخفي في طياتها الصراع الفكري والثقافي بين تيارين على مستوى قضايا المرأة عموماً، الأول: تيار تقليدي يحاول المحافظة على الموروث القديم، والثاني: تيار تجديدي يحاول التغيير وفق مستجدات الزمان والمكان.
فالأول يبني موقفه المعارض لقيادة المرأة بدافع من هاجس الخوف على الدين والشريعة، بسبب التوسع في خروج المرأة من البيت لما في ذلك من فتنة عظيمة على المجتمع، أما التيار التجديدي فيبني موقفه على أساس بشرية الاستنباطات الفقهية، وتغير الظروف الاجتماعية للمرأة وأمثال ذلك.
وهنا سوف أتطرق إلى مناقشة أدلة ومقولات المعارضين من خلال ما أراه أقرب إلى حقائق الدين ومفاهيم القرآن الكريم، والسنة النبوية، مع استبعاد المقولات التي تحاول اتهام الآخر في إخلاصه لدينه، وبالعمالة للغرب و موالاة الشيطان.
ولعل من أبرز أدلة المعارضين في هذه القضية، ما تناولته وسائل الإعلام مؤخراً عن قيام عدد من الأكاديميات برفع خطاب اعتراض على قيادة المرأة لأسباب شرعية واجتماعية واقتصادية ونظامية.
ومنطلق هذه الاعتراضات هو من فتاوى فقهية قديمة لغرض تبرير عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة، مغلفة باسم العقل والمصلحة، والبعض يدعي الاجتهاد والقياس وهم في الحقيقة مقلدون في واقعهم من خلال التزامهم بآراء الفقهاء القدامى بعد أن أكسبها الزمن قدسية جعلتها فوق مستوى النقد والتمحيص، ومع ذلك يتحدثون عن إدراك العقل للمصلحة والمفسدة في الحكم الشرعي وينفون ذلك نظرياً بقولهم بوجوب الأخذ بالروايات حتى لو تقاطعت مع العقل ورأى الفقهاء أن المصلحة في خلاف ذلك، هم في الحقيقة يحجبون العقل عن تشخيص الإيجابيات والسلبيات في العديد من القضايا الحقوقية، مما أدى ذلك إلى اضطراب في المواقف وعدم الانسجام مع الواقع المتحرك.
فيما يلي أستعرض بعض الجوانب التي تضمنها خطاب الأكاديميات مع مناقشة وتحليل أوجه الاعتراض باختصار شديد، وذلك على النحو التالي:
1 ـ المطالبة بالسماح للمرأة بقيادة السيارة تعد مخالفة للنظام العام في المملكة ومخالفة لفتاوى هيئة كبار العلماء.
هذا الكلام لا يخلو من الصحة، ولكنه يقترن بنقاط ضعف، من أهمها: أن فتاوى هيئة كبار العلماء في التحريم كانت مقيدة بوجود مخاطر ومفاسد للقيادة، فالتحريم هنا مقيد ومناط بوسائله وليس لذاته، بمعنى أنه بزوال هذه المخاطر فإن التحريم ينتفي ويقضي إلى الإباحة، وكما هو معلوم عند فقهاء المسلمين فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، ناهيك عن الاختلاف الفقهي في هذا الموضوع هذا من جانب، ومن جانب آخر، عندما تكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فإن معنى ذلك المصالح والمفاسد النوعية المتوفرة في موضوعات الأحكام بشكل عام بحسب رأي الفقهاء، فيقال بأن “تعاطي المخدرات حرام” للمفسدة الموجودة فيها بشكل عام، وإن وقع نافعاً في بعض الحالات مثل العمليات الجراحية وتخفيف الآلام عن المريض، ويقال بأن الصوم مفيد لصحة الإنسان إلا أنه قد يضره أحياناً، وعلى هذا الأساس ينطلق البعض في عدم إقرار حق المرأة في قيادة السيارة، لأن في ذلك مفاسد عظيمة وإن اتفق في بعض الحالات الاستثنائية أن تكون فيها مصلحة للقيادة، وبناءً على ذلك تمارس الوصايا على المرأة وتصادر حقوقها، مع أن المنطق الحديث يقر بأن لكل شيء إيجابيات وسلبيات، ويجب العمل على تقوية الإيجابيات (المصالح)، والسيطرة والتقليل من مخاطر السلبيات (المفاسد)، ومن ذلك على سبيل المثال وضع الأنظمة والقوانين وتطبيقها على أرض الواقع.
2 “ ـ الاعتراض من الناحية الاقتصادية يتعلق بحقيقة الأسر الفقيرة، ومعظم أفراد الطبقة المتوسطة في أمس الحاجة إلى مشروع النقل العام، والدول الخليجية لم تشهد تخلي الأسر عن السائق.
النساء في هذا الزمان يعملن في شئون التعليم والصحة والمؤسسات الاجتماعية، ويكسبن من المال ما قد يكفي لنفقاتهن تماماً كالرجل، والمرأة اليوم بسبب عملها تساهم كثيراً في دعم المورد المالي للأسرة، والمشكلة الحقيقية تكمن في منعها من الخروج للعمل بعد خسارة المجتمع جهود التعليم ونفقات المال العام لتذهب أدراج الرياح بسبب ذلك.
أما بخصوص مشروع النقل العام فهو حاجة تنموية تهم الرجل والمرأة على حد سواء، وهي مأخوذة في الاعتبار في خطط الدولة، أما بخصوص وجود السائق في بعض دول الخليج فهذا الأمر نسبي يحتاج إلى وجود إحصائيات كمية، فربما كانت نسبة السائقين في الدول التي تقود فيها المرأة السيارة أقل بكثير من الدول التي لا تقود فيها.
3 ـ من الجانب الاجتماعي فإن قيادة المرأة سيترتب عليها خسائر اجتماعية كبيرة، مثل زيادة خروج المرأة من البيت والانشغال عن الأسرة.
وهذا من غريب الاعتراض والاستدلال، فكأنما المرأة تقود السيارة لأجل التسكع في الشوارع، وليس لأجل العمل والتعليم وصلة الرحم، أو لغرض الترفيه والترويح المشروع عن النفس، كما أن المنهي عنه في الإسلام ليس الخروج بذاته، وإنما الخروج مع التبرج المصاحب للاستهتار بالقيم الأخلاقية.
وتأسيساً على ما تقدم، يتضح أن مسألة قيادة المرأة للسيارة ليست من المسائل الدينية البحتة، بل هي قضية عقلية تجريبية تدخل في إطارها التقاليد والثقافة الذكورية التي تحولت إلى ثقافة إسلامية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن من حق كل إنسان أن يبدي رأيه في هذه المسألة، ولكن ليس من حقه تزييف الحقائق بهذا الشكل والاكتفاء بذكر السلبيات وتهويلها دون أي دليل تجريبي على ذلك مع التهميش التعسفي للإيجابيات.