أعلن عن تأسيس منظمة الأمم المتحدة في الرابع والعشرين من أكتوبر العام "1945" بمدينة سان فرانسيسكو الأميركية، كتتويج لماراثون الاجتماعات التي بدأ الحلفاء في عقد مشاوراتهم في الثاني عشر من يونيو العام "1941" بلندن، وكان ذلك الإعلان المشترك الموقع بين الحلفاء قد نص على العمل معا "كحلفاء" مع الشعوب الحرة الأخرى، في الحرب كما في السلم، ليكون خطوة أولى صوب إنشاء منظمة الأمم المتحدة فيما بعد.
تتباهى منظمة الأمم المتحدة بتاريخها ومنجزاتها على مدى أكثر من نصف قرن مضى "الثمانية والستين عاما الماضي"، وهو ما يحق لها من ناحية قدرتها على توحيد صوت العالم - ولو بشكل نسبي - للدفاع عن الأمم الضعيفة ضد قوى الظلم والطغيان والاستبداد، وتلك مبادئ عظيمة في الواقع تنطلق من الضمير الإنساني العالي الإحساس بالمسؤولية تجاه الإنسان وأخلاقيات وحقوق التعايش بسلام وعدل، وهو تحرك سليم في موعد سليم فرضته الظروف السياسية أيضا، لكننا إذا قمنا بتقسيم تلك الفترة الزمنية إلى عقود من عشر سنوات، سنكتشف أن الدول الفاعلة في منظمة الأمم المتحدة، قد سيطرت على المجتمعات الإنسانية الفقيرة "الضعيفة سياسيا واقتصاديا" من خلال سيطرتها على مفاصل المنظمة الرئيسة، لصالح الأمم والدول الغنية ذات الاقتصاد القوي، تحولت معه المنظمة عبر تلك الفترات إلى عصا غليظة في يد تلك القوى الخمس الرئيسة المؤسسة "أميركا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين"، وظهر على إثر ذلك الاستئثار كثير من الأصوات والمذاهب السياسية المتباينة المختلفة المعارضة لسياسته، والمنادية بحل تلك المنظمة المسماة - خطأً حسب رؤيتها - بالأمم المتحدة كما ذهبت إليه، وهي مذاهب دعمتها دول الحرب الباردة في الغالب، وهو ما حاول بعض المتنطعين في أميركا تصويره للعالم!.
لكن الموقف السعودي الأخير الرافض لمقعد عضوية مجلس الأمن ليس كذلك في الواقع، فهو موقف شجاع ونبيل أملته الضمائر الحية في المملكة لأمة بأكملها، تنطلق في مبادئها من الشعور العظيم بالمسؤولية تجاه أمتيها العربية والإسلامية والأمم المستضعفة في العالم دون استثناء، وكون المملكة باتت اللاعب الأكبر في المنظومة العربية وسنامها بلا جدال، ويدرك قادتها الحكماء ذلك بوعي، وما تطلبه المرحلة السياسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط "المتفجر" والعالم، ليكون ذلك الموقف تعبيرا احتجاجيا صريحا لسياسة الغبن التي أصبح يمارسها مجلس الأمن، وصوتا جهوريا ينادي بالإصلاح الجذري لصلب الفكر والاتفاقيات "البالية" للمنظمة برمتها، بما يتوافق مع المتغيرات السياسية والاقتصادية واختلاف موازين القوى الجديدة على الأرض، لفك أسر العالم من قبضة أولئك الذين سعوا على الدوام لبسط نفوذهم من خلال التلاعب بالمصطلحات والظروف السياسية، في مناطق بعينها في العالم لدعم مصالحهم وجشعهم، ومحاولة شجاعة "بصوت عالٍ" يسعى لإيصال هموم غالبية أمم العالم المستضعف إلى المتغطرسين القابضين على المقاعد الدائمة لمجلس الأمن، وتنبيههم إلى نفاد الصبر العالمي على المواقف الاستحواذية الأنانية للأعضاء الدائمين به، إذ أثبت التاريخ القصير لمنظمة الأمم المتحدة فشل سياساتها في تقديم الحلول الناجعة للمشكلات السياسية والإنسانية التاريخية العالقة، وأهمها على الإطلاق قضية النزاع العربي الإسرائيلي "فلسطين المحتلة"، وتمطيطها اللامنطقي على مدى الـ"68" عاما الماضية من قبل اللاعبين الأقوياء في المنظمة، وتمييع القضايا والمستجدات التي تتوزع على رقعة خارطة العالم اليوم. لقد تأكدت المملكة العربية السعودية من عجز منظمة الأمم المتحدة، ومعظم الفروع التابعة لها - ومن ضمنها مجلس الأمن - في تقديم ما يكفل استقرار العالم وتقدمه ونهضته، وأن استمرارها على نفس النهج القديم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، فيه الكثير من الإجحاف والمفارقات غير المفهومة والمستوعبة، واستخفاف سافر ببقية شعوب وأمم الأرض، وعليه فإنه من الخطأ الاستمرار على إبقائها والعمل بصيغتها هذه، وأن موعد التغيير النوعي الحقيقي قد حان ولا بد له أن يحدث، وهذا التوقيت الذكي للمملكة لم يكن أكثر من قراءة ممتازة للأوضاع العالمية الراهنة، وقراءة عميقة لواقع قرارات وآلية عمل منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن إزاء هذه المتغيرات، والذي أكده الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي بقوله: "هذا الموقف السعودي يعد خطوة إيجابية على طريق التفكير في إصلاح الأمم المتحدة بعد انتهاء فترة الحرب الباردة في أواخر القرن الماضي".
وما الدعم الفرنسي "العضو الدائم في مجلس الأمن" للموقف والمطالبات السعودية، إلا دليل كبير على سلامتها ومنطقيتها والحاجة الملحة إليها، ليعيد الموقف السعودي الحالي إلى الأذهان موقفها السابق، المتمثل في خطاب الملك فيصل بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ على منبر الأمم المتحدة في العام "1963".
ومن الطبيعي أن تهب الأقلام المناهضة في الداخل الأميركي خصوصا للهجوم على الموقف السعودي؛ لأنها اعتادت على مر الزمن على المواقف السلبية المتخاذلة للعالم من حولها، لكنها أهملت أنها اليوم باتت تقف في مواجهة ثقل سياسي كبير، ومؤثر قوي في التوازنات الاقتصادية العالمية، وهي اللعبة الجديدة المحركة للسياسات العالمية الحديثة بكل تفاصيلها، والتي أدركت أبعادها السياسة السعودية وانطلقت منها بثقة عظيمة.