مررت منذ مدة قريبة من أمام أحد "المراكز التجارية الكبرى" بمحافظتي، فرمقت عيناي منظرا لعدد من النساء المكافحات، رأيتهن وقد افترشن الأرض، وبسطن أمامهن "الأواني"، وفيها ما صنعته أيديهنّ من أكلات شعبية متنوعة، أعددنها في بيوتهن كما قلن لي. كلما فتحت غطاء آنية من تلك الأواني، شممت فيها ما يحمل إلى أنفي رائحة الأمس الذي عرفته، وسمعت عن بعضه، وماعرفنه هؤلاء النسوة الطهر، فوقفت أتأملهنّ فوجدتهنّ نساء كأن لسان حالهنّ ما قاله "أبوالعتاهية":
ولقد بكيت على الشباب ولمتّي.. مسودّةُ ولماء وجهي رونق"، عرفت ذلك من تأوهات تنطلق من أفواههنّ، وتنهيدات تفصل كلامهنّ، نساء فارقن بيوتهنّ وأولادهنّ، ولم يرضين بالجلوس في منازلهنّ، وكان يمكن لهنّ أن يقنعن بالقليل، لكنهنّ عقدن العزم ما دام هناك بقية من نشاط وحركة، وكأنهنّ يقلن لعل سنوات العمر الباقية تمهلنا أن نجمع فيها ما يعيننا على العيش، ونحقق معها بعض أحلامنا، قبل أن يأخذنا الكبر، أو تنزل بساحتنا أوجاعه، فركبن ذلول التعب والشقاء؛ طلبا للقمة العيش الشريف، من أجل دراهم معدودة تسقط في أيديهنّ التي قد تعبت في الحياة، ووشمتها بعناء السنين، وتجاعيد رحلة العمر الشقي، قد لا تفي تلك الدراهم التي يحصلن عليها لمواجهة تكاليف الحياة وغلاء المعيشة، لكنهنّ أردن الشعور بأنهنّ قادرات على العيش، واقتحام مجالات الكسب الحلال، ولو كان سبيل الطلب مضنيا، ولو كانت البضاعة مجرد أكلات شعبية، قد لا تعجب بعض أجيال اليوم، لكنهنّ يفتخرن بأنهنّ الحارسات المحافظات على ما تبقى من إرث الماضي، حتى وإن كان ذلك الإرث طعاما، يحمل بصمات الماضي الجميل وعبقه، بعد أن لمسن تبدل أحوال جيل يعيش الغربة مع نفسه، جيل لا يعرف "العرضة" بقدر ما هو يلم إلماما كاملا بقاموس "الهيب هيب" و"البريك دنس" وترديد "جانجام ستايل" جيل لا يعرف "العريك" مم تصنع؟، بقدر ما هو يعرف كيف يلتهم "الهومبرجر" ويعلم كيف تؤكل "الدونات" حتى آخر قطعة منها، جيل لا يعرف ما تكبده جيل الأمس من قسوة الحياة وشظف العيش، بقدر ما يعيش إحساسا واهما أن كل شيء حصل على كف الراحة، وأن كل ما يشتهيه هو في متناول اليد، لذا فهو يطلب ويتمنى كل شيء، وكأنها سهلة المنال، ثم يسهل عليه التفريط به؛ لأنه لا يملك ثقافة أن ما تحقق كان حلما يسكن عقول الرجال الأوائل، وكان قدره أن يقطف الثمار دون تعب، فأصبح سهلا أن يتزوج بعضهم من مال لم يتعب في الحصول عليه، ثم يطلق عروسه في اليوم التالي أو بعيد أسبوع، وغير مكترث أن تذهب سيارته في شربة ماء؛ لأنه لم يجن مالها، وغير مستحيل عليه أن يستبدل قيمه التي تربى عليها جيل أنجبه، ليعتنق قيما نبذها الآخرون، لن أطيل مسحة التشاؤم؛ لأن في الجيل من يعيد للنفوس الأمل، وكلنا شهدنا شهامة الشباب السعودي في أحداث السيول الأخيرة، وكيف أن بعضهم يرمي بنفسه في معترك السيول لينقذ أسرة أو شخصا، لكن وأنا أودع مشهد النساء الذي استوقفني، وجدتني أترنم ببيت شوقي من رائعته "سلو قلبي"، وكأني مجنون يحدث نفسه:
"وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا".