فجعت المملكة الأسبوع الماضي، مجددا، بمقتل خمسة أشقاء من مواطنيها اليافعين على طرقها. تم هدر دماء شاب وأربع شابات في مقتبل العمر بإصابة مرورية جسيمة ليتركوا وراءهم والدين مكلومين لن تحرك دموعهم الحس الإنساني والأخلاقي والوطني لأعضاء لجنة السلامة المرورية لمكافحة وباء الإصابات المرروية، فالإصابات المرورية وصلت عنان السماء فماذا ستغير خمسة أرواح في محيط من القتلى؟
تنص المادة السادسة والعشرون من النظام الأساسي للحكم على أن الدولة تحمي حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية، وحفظ النفس هو أحد الكليات الشرعية الخمس بتحريم كل ما يلقي بها إلى التهلكة. ولتحقيق هذه المادة من النظام الأساسي للحكم، فإن المادة الستين من نظام المرور تنص على أن الحادث المروري (الإصابة المرورية) يعد موجبا للمسؤولية إذا نتج من الإهمال، أو قلة الاحتراز، أو عدم مراعاة الأنظمة. توضح اللائحة التنفيذية في مادتها 60/1/1 أن الإهمال هي الحالة التي ينتج عنها ترك وامتناع، إذ يغفل الفاعل اتخاذ احتياطا يوجبه الحذر ولو اتخذه لما وقعت النتيجة الضارة.
هذه الأنظمة واللوائح تسري على جميع مستخدمي الطريق ومع ذلك فإني سأستعيرها لتشخيص جرائم الإغفال المرورية والقائمين عليها من أعضاء لجنة السلامة المرورية، فلا وجود لنظام رقابي يرصد أداءهم المترهل، وهم أيضا من مستخدمي الطرق، ولذلك فإن النظام ولائحته تسري عليهم وتدينهم.
ولأن الخطاب الإنساني العاطفي لا يروق للتنفيذين والتشريعيين، فلقد قمت بتحليل بيانات المرور التي يحسب لهم إيجابا جمعها ورصدها بشكل علمي سليم على عكس نظيرتها وزارة الصحة التي ما زالت ترصد الإصابات المرورية مع حالات التسمم تحت ترميز واحد.
الكل يعلم عن المعلومة الشهيرة، وهي أن المملكة تفقد 17 مواطنا ومقيما يوميا بسبب الإصابات المرورية وهي طريقة غير علمية، حيث إنها لا توضح المعدلات لكل 100.000 نسمة سنويا لكل منطقة ولا تعكس الواقع الحقيقي لتفشي هذا الوباء في مناطق المملكة المختلفة.
وللتوضيح والتقريب، ماذا لو انتهت مباراة في استاد الملك فهد الدولي، وهو بكامل طاقته الاستيعابية بحوالي 100،000 متفرج بوفاة 9 متفرجين لا سمح الله؟ أليست فاجعة ومصيبة؟ للأسف فإن هذا المعدل السنوي لقتلى الإصابات المرورية الذين تفقدهم منطقة الرياض وتعد الأقل بين مناطق المملكة. وباستخدام المثال أعلاه، فإن معدلات قتلى الإصابات في مناطق المملكة هي كالتالي: 24 بمنطقة مكة المكرمة، 30 بمنطقة المدينة المنورة، 32 بمنطقة القصيم، 25 بالمنطقة الشرقية، 37 بمنطقتي عسير وجازان، 27 بمنطقة حائل، 32 بمنطقة نجران، 28 بمنطقة الجوف، 40 بمنطقة الباحة، 50 بمنطقة تبوك، و60 بمنطقة الحدود الشمالية!
أوليس من المفجع ومن المُستهجن أن يموت 60 متفرج بين جمهور مباراة "واحدة" في استاد الملك فهد الدولي وهو بكامل طاقته الاستيعابية لا سمح الله؟ فكيف لا يتم استهجان هذه المعدلات من قتلى المواطنين والمقيمين بسبب الإصابات المرورية؟ كيف تمر هذه المعدلات على أْعضاء لجنة السلامة المرورية منذ أعوام ولا حراك يذكر؟
من المهم التنبيه على أن الأرقام أعلاه هي معدلات القتلى فقط، وليست الحالات التي انتهت بإعاقات دائمة أو مراكز التأهيل. ومن المهم أيضا التذكير بأن الأرقام تعكس تعريف الوفاة الناتجة عن إصابة مرورية خلال 30 يوما فقط من وقوع الإصابة ولا تغطي الوفيات بعدها.
لا يمكن اختزال مقتل الأشقاء الخمسة في سائق مخمور، حسب ما تم تداوله عبر وسائل الإعلام وأفراد المجتمع، فهذا إهمال من قبل أعضاء لجنة السلامة المرورية موجب للمسؤولية، فلو أنهم قاموا بواجبهم الخدمي، لما كان لهذا السائق المخمور أن يجوب شوارع الرياض مسرعا مكتفين بإعطائه قسيمة لساهر قد يملك صاحبها من الأموال ما يؤهله لشراء النظام كاملا. لو أن اللجنة قامت بواجبها، ما كان لهذا المخمور أن يجوب شوارع الرياض بسرعة جنونية من دون ايقاف وإخضاع لفحص جهاز قياس الكحول التنفسي، وما كان لهذا المخمور أن يحمل رخصته وهو من المؤكد أنه قد أصيب مسبقا باصطدامات غير مميتة ولم يتم فحصه في غرف الطوارئ ولم يتم الإبلاغ عنه، وما كان لهذا المخمور أن يملك امتياز قتل الأبرياء من دون دعم سوء التخطيط والهندسة لتقاطع الطريق بحي الياسمين والذي حصد أرواح عديدة مسبقا. بعد هذا كله، لا تملك لجنة السلامة المرورية الحق باختزال ترهل أداء أعضائها في سائق مخمور.. لا تملك اختزال إهمالها الموجب للمسؤولية حسب المادة الستين من نظام المرور.
ومع ذلك فإني لا أستغرب هذا الترهل وهذا الصمم عن وباء الإصابات المرورية، فأصحاب القضية المعنيين بدفع الحراك لمجابهة هذا الوباء قد تخلوا عنها، إلا من رحم ربي، واكتفوا بوظائفهم الاكلينيكية ليكتفوا بالتغريد مساء امتعاضا بانتظار من ينوب عنهم بالقيام بواجبهم في دفع عجلة السياسات المرورية.
أين أطباء الطواريء وجراحو الإصابات المرورية وطواقمهم من هذا المشهد المأساوي؟ أين جمعياتهم العلمية وأين برامجهم التدريبية وأين بحوثهم وأين حملاتهم وأين تنظيماتهم للجانب الصحي من منظومة السلامة المرورية؟ أين تقاريرهم وتوصياتهم غير الورقية وأين حراكهم على الأرض؟ كيف لأحد سواكم أن يتبنى هذه القضية وأنتم من تقفون شاهدا على ضعف الأنظمة وترهل القائمين عليها؟ أنتم تعلمون أن لكم اليد الطولى وشبه الوحيدة في توجيه دفة مكافحة هذا الوباء مع انعدام مؤسسات المجتمع المدني، وضعف حراكم ودفاعكم عن القتلى ومرضاكم جعلهم مجرد رقم في إحصائية مرورية أسهمتم في تعزيزها صمتا وتسليما.
وباء الإصابات المرورية لن ينحسر ما لم يتم تفعيل الاستراتيجية الوطنية للسلامة المرورية عاجلا، ولن ينحسر ما لم تقر المحاكم المرورية، ولن ينحسر من دون إقرار نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية حتى يتسنى للنقابات المهنية وجمعيات أهالي قتلى الإصابات مراقبة أداء أعضاء لجنة السلامة المرورية وتحريكهم بعد أن فشلت بتحريكهم جثث الطريق من مواطنين ومقيمين.