على الرغم من العمر القصير للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة)، إلا أنها حاولت جاهدة أن توجد لنفسها صوتاً مسموعاً في المجتمع، من خلال نشر قضايا الفساد على موقعها في شبكة الإنترنت، تحقيقاً لمبدأ الشفافية، بدءاً من الهيئة نفسها.

وفي سبيل ذلك، قامت الهيئة أيضاً بالتواصل مع وسائل الإعلام من خلال البرامج التلفزيونية، وعقد الندوات الصحفية مع الإعلاميين، والمشاركة في البرامج والمهرجانات الوطنية، وتوزيع الكتب والنشرات التوعوية التي تتحدث عن قضايا الفساد وسبل مكافحته، وآثاره السلبية على المجتمع.

وعلى الرغم من جهود الهيئة في التواصل مع المواطنين والمواطنات، وتوضيحها لطبيعة أعمالها ومنجزاتها، والصعوبات التي تواجهها عند ممارسة اختصاصاتها ومهامها، إلا أن الرأي العام لديه شكوك في فعالية الهيئة، نتيجة لقناعته بأن هذه الهيئة ستكون مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق ذوي التقارير غير الفعالة التي لا نتائج مترتبة على تقاريرهما، أهمها محاكمة مجرمي الأموال العامة والفاسدين، ليس فقط الصغار منهم، بل أيضاً الكبار.

لهذا بدا الرأي العام لا يؤمن بالأجهزة الرقابية وأعمالها، لأن الفساد المستشري في الجهات الحكومية لم يتغير ولم تظهر نتائج الرقابة عليها، ولم تظهر أيضاً نتائج المحاكمات القضائية للمفسدين!

وقد ردت "نزاهة" على الانتقادات السابقة بالقول بأنه "لا يمكن للهيئة نشر أسماء المتورطين بقضايا فساد إلا بموجب حكم قضائي، حيث إن التشهير بحد ذاته يعد عقوبة"، والسؤال الذي يثيره كثير من الناس: أين هي نتائج المحاكمات القضائية للمتهمين بالفساد؟

نشرت الهيئة العديد من قضايا الفساد في بعض الجهات الحكومية، مثل الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية، كما شاركت أيضاً في لجان عديدة للتحقيق في قضايا الفساد والتي أثيرت في الوسائل الإعلامية، ولم تظهر نتائج التحقيق على الرغم من مرور فترة كافية على ذلك!

والملفت للنظر أيضاً، أن الهيئة في الآونة الأخيرة، أصبحت مقلة في نشر قضايا الفساد التي اكتشفتها، والسؤال الأهم: لماذا لم تنشر الهيئة تقريرها السنوي على موقعها في الإنترنت؟

بشكل عام، تواجه الأجهزة الرقابية عدة صعوبات ومعوقات في مجال الشفافية وعلانية التقارير الرقابية، هذه المعوقات تتعلق بالجهات الحكومية التي تحاول قدر الإمكان التستر على المخالفات وقضايا الفساد لديها، باعتبار أن ذلك يمس بمصالح البلاد الاقتصادية والإدارية ويفرح بها الأعداء، وفي الحقيقة تحاول هذه الجهات الحفاظ على سمعتها وصورتها أمام الجهات العليا وحتى لا تهتز الثقة في المسؤولين التنفيذيين، وبالتالي قد يفقدون مناصبهم الوظيفية.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن بعض الجهات الحكومية تحاول الضغط على الأجهزة الرقابية في عدم نشر تقاريرها، بالقول إن مندوبي هذه الأجهزة هم وسيلة لتصيد الأخطاء وليست للتقييم والتصحيح والمتابعة، وبالتالي فإن هناك الكثير من عدم الدقة في بعض ملاحظاتهم الواردة في التقارير، ناهيك عن عدم الكفاءة المهنية لمندوبي الأجهزة الرقابية، ويظهر ذلك بوضوح من خلال طلباتهم المتكررة للوثائق والمستندات، كما أن هناك معلومات سرية للجهات الحكومية تتسرب إلى الإعلام من خلال الأجهزة الرقابية، بالإضافة إلى أن هناك من يحاول ابتزاز الجهة بهذه التقارير لتحقيق أهداف شخصية، كما أن علانية التقارير من وجهة نظرهم تعتبر تشهيرا بالجهة بدون وجه حق!

وللأسف، فإنه يبدو أن الأجهزة الرقابية استجابت بشكل غير مباشر لتلك الضغوط، فقد رأينا وجود تراجع واضح لـ"نزاهة" في نشر قضايا الفساد، بالإضافة إلى قيام هيئة الرقابة والتحقيق بنشر نتائجها بشكل إجمالي من دون تفاصيل تذكر، كما أن التقرير السنوي لديوان المراقبة وباعتراف أعضاء مجلس الشورى في وسائل الإعلام، بأنه عبارة عن نتائج إجمالية، وبالتالي لا يستطيع المجلس مناقشة التقارير السنوية للجهات الحكومية لعدم وجود الملاحظات التفصيلية للرقابة.

وهذا التراجع وعدم علانية التقارير الرقابية ليس لهما مبرر قانوني أو نظامي، بل على العكس من ذلك نجد أن الأوامر والتعليمات قد تنص صراحة على النشر والإعلان، ومن ذلك على سبيل المثال الأمر السامي رقم 25686 وتاريخ 23/5/1433هـ، والمتضمن الموافقة على قيام الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بالإعلان عن "ما أبلغ عنه، بعد الوقوف عليه، ومعرفة الحقيقة وكل من توجهت التهمة إليه وأحيل لجهات الاختصاص، دون ذكر أسماء".

كما أن أنظمة ولوائح هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبة العامة لا يوجد بها ما يمنع من نشر النتائج الرقابية، وإن كان الديوان يتذرع بالمادة (14) بسرية التقارير، فقد سبق وأن أوضحت بأن هذه المادة تتعلق بأعمال ومستندات الجهات الحكومية وليست تقارير الديوان وبالتحديد أوراق العمل وأدلة الإثبات التي يحصل عليها الديوان.

وبناءً على ما سبق، ما المانع من نشر التقارير الرقابية ما دامت الأنظمة والتعليمات تسمح بذلك؟ وبخاصةً إذا كانت بدون ذكر للأسماء الصريحة للمتورطين، والأجهزة الرقابية تحققت من وقوع المخالفات ووجود شبه الفساد! كما أن المنظمات الدولية ذكرت صراحةً بحق الأجهزة العليا للرقابة في إعلان نتائجها، لما في ذلك من أهمية بالغة في فعالية هذه الأجهزة والحد من المخالفات المالية والإدارية.

في الحقيقة المسألة لا تحتاج كل هذا التعقيد والتحفظ على نشر التقارير الرقابية وإنما تحتاج إلى عملية تنظيمية بسيطة تأخذ في الاعتبار ما يجب نشره من حقائق، وما يجب تفاديه من نشر معلومات حساسة قد تتعلق بمسائل أمنية مثل أمن تقنية المعلومات، نظراً للأضرار المحتملة التي يمكن أن تنجم عن سوء استعمال هذه المعلومات.

وبعبارة أخرى تحتاج الأجهزة الرقابية إلى وجود ضوابط متكاملة لنشر التقارير الرقابية ونتائج التحقيق في قضايا الفساد على الرأي العام، فأعمال الرقابة وجهود مكافحة الفساد يجب أن تكون معلنة وشفافة ومفصلة بحيث توصف وتوضح وتشخص، لأنها متعلقة بتصحيح الأوضاع، وإصلاح وتقويم النظم والممارسات.