طالعت بغرابة شديدة في وسط العاصمة اليابانية طوكيو منظر الأسلاك الكهربائية المتمددة بين البيوت بشكل متخلف وبشع، بما كانت عليه مدننا السعودية في الستينيات الميلادية، وكنت للتو أهتف إعجابا بدقة القوم، وقد سجلوا طيلة عام كامل معدل تأخر في القطارات مقداره 6 ثوان فقط.
تكلمت في الأسبوع الفارط عن بعض الجوانب السلبية التي لم ينقلها لنا من كتبوا عن اليابان، وكنت أشير بأن ذلك ليس من التناول العلمي، وقد شدهت لحجم الذين أيدوني من الزملاء والقراء وقد أمطروا بريدي بتأييدهم لهذا النهج، ومفاجأتهم بالمعلومات التي سقتها عن اليابان، والتدليس الذي وقعوا ضحيته، عبر إخفاء حقائق عن الصورة الكاملة لهذا البلد.
وكي لا أقع في ذات الشرك، ها أنا أسطر هنا بعض الإيجابيات التي رأيتها في هذا البلد، كي يتوازن الحكم، ولعلي أبدأ لكم من إعصار "تايفون ويفا 26" الذي ضرب طوكيو، ولي فيها يومان فقط، إذ نبه المسؤولون السكان عنه، وأعطوهم التوجيهات بملازمة مساكنهم، وظللت طيلة ذلك اليوم أرقب نذر الإعصار من شرفة منزل أختي الكبرى التي تقطنه، ولأن "الساعة البيولوجية" للنوم مضروبة لدي، فبيننا وبينهم ست ساعات؛ لم أستطع النوم، وظللت أسامر "تايفون" ليلتها، أسمع أزيز الرياح العاتية، وأشاهد المطر الغزير المنهمر طوال الليل. المفاجأة أنني نزلت للشارع بعد مرور الإعصار، أبحث عن مسطحات بقايا المطر، والبرك الكبيرة التي تكونت، فهذا إعصار قتل 21 إنسانا وليس مطرا عاديا، ذهلت عندما لم أر أي أثر أبدا للماء، أي أثر.
سأتجاوز ما ذكره كثير من الزملاء الذين كتبوا، عن النظافة المتناهية، وطرقهم في إعادة تدوير النفايات، وتهذيبهم الشديد في التعامل، لأنني سأسجله في تقرير مصور، أقدمه في المجموعة البريدية، ولكني سآتي لما أهمني وأنا أرصد تجربة اليابان.
السيد "سون ماسايوشي" رئيس شركة "سوفت بنك"، وضع رؤية لشركته لـ300 سنة قادمة، والرجل، مع كل اختلافاته مع مسؤولين وشركات حكومية في قطاع تقنية المعلومات والاتصالات، يترك كل خلافاته عندما يتعلق الأمر باليابان، ويتعاون مع غرمائه من أجل مصلحة بلاده. هؤلاء القوم بأسهم بينهم شديد، وخلافاتهم حادة جدا، ولكنهم ينسون ذلك ويذيبون الخلافات تماما، ويقفون جميعا عند مصالح الأمة والوطن والمؤسسة الرسمية.
هتفت في نفسي، وأنا أضرب كفا بكف، الرجل يرسم صورة شركته لثلاثمائة عام مقبلة، والنخب الفكرية عندنا تتصارع لأجل رجل هيئة أخطأ، أو امرأة ستقود السيارة، ويكون التحدي الأكبر لنا والشغل الشاغل هاته القضايا، ونجر المجتمع لأن يتوقف قسرا عندها.
لا أود أن أقوم بجلد الذات هنا بما فعل الزميل الشقيري أو رهط "تقديس اليابان"، فكل هذه المعارك والاحترابات، مرت بها المجتمعات التي نهضت قبلنا، وهي من السيرورة التاريخية التي تحدث للأمم، ولكن هنا دعوة بأن نختصر الوقت والمسافة، عبر التعاون والاتجاه لما هو أهم لبلدنا، الذي أكرر بأنه ثمة نواقص كثيرة فيه، ولكنه ليس بالسوء الذي يصوره البعض، والنظرة السوداوية التي يؤطرون عبرها.
لنفعل كما فعلت شركتا "تويوتا" و"نيسان" وهما المتنافستان اللدودتان أبدا، عندما واجهتا مشكلة مع الشركات الصينية قررتا أن توحدا الطلبات للشركتين كي يكون موقفهما التفاوضي أقوى مع الشركات الصينية. لماذا لا تتجه النخب الفكرية في بلادي للقضايا الأهم التي يشتركون فيها، كالحرب على الفساد وصيانة المال العام، وترسيخ الحقوق والحريات، وتثقيف المرأة بحقوقها التي أقرها لها الإسلام، والعمل على مساعدتها بالبدء بالقضايا الأهم لها. أليس هذا أدعى لكسب الوقت، بدلا من المعارك الهامشية التي يقتات ويعيش عليها البعض القليل، ويشغلون المجتمع بها؟
الباحث المتخصص في الشؤون اليابانية د. م. عصام بخاري -الملحق الثقافي السعودي باليابان- كتب في مقالة له بعنوان: "كيف سنحكم العالم عام 2100" بأن مراكز الأبحاث اليابانية تعمل دراسات استشرافية لمعرفة السيناريوهات المتوقعة للمناخ عام 2100 والتأثيرات المترتبة على ذلك للأوضاع الجيوسياسية في العالم، لأجل مساعدة صانع القرار لرسم السياسة المثلى لليابان في تلك الفترة.
القوم ينظرون دوما للمستقبل، ويرسمون خططهم لذلك، فاليابان اليوم تضع ثقلها العلمي في مجال الخلايا الجذعية المستقبلية، بل إن أحد علمائها فاز بجائزة نوبل العام الماضي فقط في هذا التخصص.
عندما يطالع أي محب لوطنه هذه المعلومات، ويتمعن في كيفية استشراف الأمم الكبرى في العالم للمستقبل؛ يمضّه الأمر، ويشعر بحسرة كبيرة، أن ثمة إمكانيات هائلة نتوافر عليها في بلادنا، وعقول علمية مميزة، بيد أننا لا نزاحم في سلم الحضارة الإنسانية. وربما السؤال الذي يجب علينا طرحه، كيف يمكن أن نخطو ببلادنا ونثب في هذا التدافع الحضاري لأمم البسيطة، وكيف نختصر الوقت والجهد لنتجه لذلك؟. أعول حقيقة على المفكرين والنخب الذين يحملون هذا الهمّ الوطني الحقيقي، لا أولئك المؤدلجين الذين يدخلوننا نفق الصراعات الهامشية.
طبعا عندما ألحّ عليّ هذا الخاطر حيال وطني، طالعت معلومة بأن جنرالات الحرب اليابانيين الذين خسروا الحرب بعد إعلان إمبراطور اليابان الاستسلام -اليابانيون إلى الآن لا يعترفون بالاستسلام ويسمونه إنهاء الحرب- قرروا الانتحار، وليس التنحي فقط، لإعطاء الفرصة للجيل الياباني الشاب والجديد كي يعيد بناء البلد، بعد أن تيقنوا بأنهم قادوا اليابان لطريق الفشل والهزيمة، تبسمت وقلت: نريد فقط أن نعطي الجيل الجديد من الشباب الفرصة لتسنم بعض المسؤوليات، ليقودوا المرحلة المقبلة لبلادنا.
وزراؤهم إلى الآن ينتحرون إن أخفقوا.. الانتحار ثقافة في هذا البلد المتحضر..عجبي!