لو تتبعنا ما يصدر من مواعظ وخطب في مواسم دينية كشهر رمضان أو أشهر الحج، لوجدناه يملأ البحار حبرا، لو كتب على ورق، وهذا أمر محمود في مجمله لأنه يأتي في إطار الآية الكريمة: (وذكر إن الذكرى تنفع المؤمنين). ولكن المتفحص للكثير من هذه المواعظ يجد أنها تركز بشكل شبه كامل على طريقة أداء العبادات دون الدخول في عمق الهدف من العبادة نفسها وهو ما يسمى "المقصد الشرعي".
أقول هذا، وقد أكرمني الله هذا العام بالحج، حيث عشت مع حوالى مليوني حاج من جميع بقاع الأرض، نعمة أداء الفريضة خلال ستة أيام أعتبرها من أكثر أيام عمري تربية جسدية وروحية. فعلى الرغم من أن "حملة الحج" التي كنت فيها، كانت تقدم ما يزيد على ثلاث محاضرات وعدة مواعظ في اليوم الواحد، إلا أن أكثر ما يتطرق له الدعاة الأفاضل، هو الجوانب الظاهرية والأحكام الفقهية الخاصة بكل نسك، والبعض الآخر يذهب بعيدا ليتحدث عن خطر "الليبرالية" و"العلمانية"، بل إن أحدهم تحدث عن موضوع المبتعثين والمبتعثات للدراسة في خارج المملكة في موعظتين إحداهما على صعيد "عرفات"، والأخرى في "منى"!
وللحق فقد لاحظت الدهشة تعلو وجوه بعض الحاضرين وكأنهم يتساءلون: لماذا نستعيد هذا الموضوع في مكان وزمان مثل الحج؟ لكن القليل جدا من يشير ـ بشكل عابر ـ إلى المقاصد المعنوية والتربوية للحج. فمثلا، حضرت جدلا كبيرا بين عدد من الحجاج حول حجم "الحصاة" التي ترمى بها الجمرات، فبعضهم يصر على أن الرمي لن يكون صحيحا إلا بحصاة في حجم "حبة الحمص"، وإن كبرت قليلا فإن في الأمر "شبهة"، ثم توجهوا إلى أحد المفتين، الذي أخرجهم من الجدل بالقول: "لا حرج في الأمر". فلو كانت المواعظ والمحاضرات تركز على المقصد من الرمي، لا الرمي بذاته، لما وجدنا من يجادل على حجم الحصاة، دون أن يعرف المغزى الأكبر من شعيرة الرمي، فللأسف أن الكثير من الحجاج وغيرهم ما زال يعتقد أن تحت تلك العلامات الأسمنتية ثلاثة شياطين (كبير ووسط وصغير) لا يبرحون المكان.
الحقيقة أن من يؤدي مناسك الحج وهو يتساءل بينه وبين نفسه، عن الهدف من كل منسك، ويحاول الإجابة قبل أن يسأل، سيجد إجابات عميقة توحي بأن هذا الركن العظيم يربي الإنسان على الصبر وتحمل المشاق والانضباط ويعطيه شعورا بالقوة وهو يسير وسط هدير مئات الألوف، والأهم محاربة شيطان النفس قبل "شيطان الجمرات".
الحج عبادة تحمل من الرمزية ما لا تحمله أي عبادة أخرى، ولكن ما زلنا نحتاج إلى ما يبحث في أسرار تلك المناسك، ويوصلها للناس، لكي يدركوا أن الأمر ليس مجرد أفعال ظاهرية.