الحديث الذي يحصل كل يوم عن الماضي بأشكال مختلفة، مشافهة كانت أو مكتوبة، ذو أثر وصدى كبيرين على الواقع الذي يعيشه الناس، بل هو مكون رئيس للعاطفة وللعقل الفردي والجمعي معا، وقد يفرضه الواقع من حولك، فترى الماضي يجول في الحاضر كل لحظة بل قد يُسيّر الواقع، ألا ترى شخصا يتكلم واقعه بعُقد ماضيه؟ أو يتكلم بدوافع الماضي الملهم أو المؤلم كأحد مصادر التأثير من خلال إزميل الزمن كتأثير الواقع اللحظي أو المستقبلي وحقائقه وخيالاته على الآني؟ هذه مسألة محسومة في عالم الإنسان في صورتيه البسيطة أو من خلال نتاج الدراسات في الفكر وعلم النفس وثمرات فلسفة التاريخ.
لكن نبقى في طرح الأسئلة عن أثر ذلك الماضي على الإنسان، أمة أو فردا، خاصة في مرحلة التكوين، إذا وضع في الحسبان أن التعامل مع الماضي كله انتقائي، يختار منه الناس بحسب قدرتهم على الفرز بين الحقيقة والأسطورة، وبين النافع والضار، فتحصل المنفعة بشرط العقل المنفتح الذي لا يحجزه رأي عن مناقشة أي مرحلة ماضية تكشف إنسانية البشر ليصبح الرفض أو الاستلهام متماشيين مع حاجة الناس، أما مجرد ابتلاع الماضي بلا فرز عند وصفه كحبة دواء وإكسير حياة، فيعد توصيفا يحمل جهلا مركبا ومضاعفا.
فما الذي يحدث مثلا بعقل المتلقي ـ دارس القانون مثلا ـ وهو يستمع لمعلمه يمتدح الماضي ويعرج على قصص ماضوية مليئة بحالات كـ"أيها الغلام أعطه ألف دينار.." وسرد تاريخي لمفهوم تسلط المتغلب الذي يغضب فيستجمع الناس ثيابهم حتى لا تصيبها دماء شخص قال له كلاما لا يرضيه، ثم يكمل الأستاذ الحديث عن الحق العام والحق الخاص!
أو معلم الفيزياء الذي يعطي استراحة يغّيب بها كل منطق المادة والمسافة والجاذبية، ليحقن في رأس تلامذته ما لا يصدقه عقل ولا دين عمن طار في الهواء أو سار على الماء بفضل إيمانه! أو يسرد أساطير تشبه عصا الساحرة البشعة التي ورثتها له قصص ما قبل عصرالطائرة أو النوع الرديء من أفلام الكرتون، ثم لا يضع مع القصة أداة نقد، فيطلق الفيزياء إلى الفراغ، ويصبح الكم والكيف وقانون الحركة والجاذبية سخافات وهمية بلا حماية المنطق! ولك أن تتخيل ما يمكن أن يكونه ذاك "القانوني" أو "الفيزيائي" لو ابتلع طعم الخرافة ومزجها بعلم متقدم وأثره التشويهي في مجتمعه إن كان بدائيا، وهو في الأصل يحتاج إلى عمليات تجميل لمسارات ومستقبلات الذهن والحجاب الحاجز للعقل.
وطرف آخر تدميري يكثر في العالم الثالث، من أشباه المتعلمين على مستوى عشائري أو أيديولوجي، أو ممن قد يضج بهم الإعلام ممن يجعلون الهوة مع الماضي سحيقة جدا، فيكون الطرح باستحالة إعادة الماضي، وهو تفكير صحيح في حال أن الذهاب إلى الأمام في نظرهم يكون بالعودة إلى الماضي بتفاصيله أو إعادة تطبيقه! وهذا ضد قوانين الكون والمنطق، وهو طرح يناقض نفسه عقليا، ويوافق غيرالراغبين في الخروج من العالم اللاعقلاني، خاصة عندما يختلط مفهوم الاستلهام بخيال طفولي لإعادة تمثيل الماضي في مشهد مسرحي يشارك فيه كل الناس، ومجرد صناعة الهوة مع الماضي تنتج القطيعة أو الأسطورة، وفي أحسن الأحوال الخصومة، وتصيب الحاضر ومن فيه ببلادة ينتج عنها التغني بالماضي وتسكين الإحباط الأممي بقصصه. كإعادة الكلام لأبناء اليونان اليوم عن اليونان التاريخية بحضارتها المهولة التي جعلت البشر يتسابقون للمشاركة في صناعة تاريخها، وأقله الاستفادة ماديا منها حتى إنه في الألف الثالث قبل الميلاد، بدأ توافد أنهار من البشر الصينيين والعرب والفرس للحضارة هناك؛ من أجل العمل أو التجارة أو التعليم أو الارتزاق، ولك الخيال كله عن اقتصاد يستوعب كل قادم ويبحث عن غيره ليلتحق بعجلة الحضارة؛ لأن للكل مكان وفرصة ودور في الوقت الذي يمكن أن ينظر إلى هذا الماضي بحسرة طويلة ممن تبقى من تلك الحقبة في صورة بقاياها ونثارها في شكل اليونان الدولة المعاصرة التي وصل بها التأزم الاقتصادي أنها عرضت رهن آثار حضارتها للسندات البنكية مقابل لقمة العيش للميزانية! فأفرز هذا الواقع تطرفا وتخلفا يطالب بغلق المجتمع عنصريا وبطرد المهاجرين، وتمثل ذلك في حزب "النجم الذهبي" الذي كان هذا فهمه لـ"العصر الذهبي" لتاريخ أمته، أما أفلاطون الذي رأى أمته الآن تفهم ماضيها بطريقة داعية للاستجداء، فإنه يحثو التراب في قبره خجلا.
ولك أن ترى أماكن أخرى تتغنى بالشجاعة، وتردد شعر الكرامة وتعيد وتستجر قصص الأبطال والفرسان من عصر الأنفة، بدءا بعمرو بن كلثوم حتى عصر السياسي المحنك صلاح الدين، الذي كان الوزير الوحيد السني في حكومة الفاطميين، ثم البطل بعد ذلك لمواجهة الاستعمار العسكري الغربي، الذي ينظر إليه ُكتاب التاريخ عندهم بفهم وتقدير مختلف عن بني جلدته.. كل ذلك التراث الضخم لا يعني بالضرورة أن الأحفاد فهموا الدرس وإنْ تغنوا به، فقد لا يظهر في أمم بأكملها عشرة أفراد مميزون يتبنون مبادئ سلمية واضحة تحفظ كرامة وحقوق الإنسان فيصبح الماضي مجرد ملهاة.
وفي ماضي الحضارة الفرعونية المصرية الهائلة القديمة، وفي وقت كان العالم يعاني من الجوع أشده، كانت الأمم ومنها الهكسوس ـ وهم قبائل بدوية ـ تحاول الولوج إلى الفضاء المصري ولو بتغيير نظام الحكم لصالحها وبشتى الطرق، وقد فعلت، حيث العيش الرغيد والتطور الحضاري متوقع، إلا أن السبب الرئيس هو "القمح" حيث كانت مصر سنبلة العالم القديم، وأرض النيل اليوم أكبر مستورد للقمح في العالم، بل في التاريخ.
والحصيلة: هل يا ترى كل من لديه ماض مجيد يعيش واقعا سعيدا؟
الإجابة تكون بـ"نعم" و"لا"، فهي بالإيجاب لو كان النظر إلى الماضي بموضوعية ومصداقية لاستلهام المفيد، والجواب بلا إن فهم الماضي كقاتل للحاضر، يضع أهله قصاصين ومتغنين به، فالصين اليوم تبعث من جديد، ومؤكد أن ماضيها لم تصنعه مجرد أسطورة أو جدار عوائق، ونهضة أميركا قبل ثورتها ثم استقلالها أواسط القرن الثامن عشر 1776 نشأت بلا تاريخ مجيد يستحق الكلام، ولم يكن فقدان ذلك مفصليا، فالتلازم مفقود وغير لازم، والماضي الإنساني محايد بكل استقلالية ينتفع به من أراد، ولن يشفع لأحفاد يتلقون العلوم بخلط مقيت، يحسبون الحضارة مباني أسمنتية ليملوا منها ويتسامروا تحت ضوء القمر فيستعيدوا ماضيهم كحكاية المحبطين عند غياب الضوء، خاصة عندما تكون الحكاية ثقيلة والأقدام كسيحة.