يعتبر "المقهى الثقافي" شكلاً من أشكال شيوع القيم "الحوارية" في تاريخ الثقافة الإنسانية خلال قرون مضت، سواء تلك التي كانت سائدة في مجالس الزعماء، أو تلك التي تحوي جلسات شعبية بين المثقفين والأدباء والشعراء، فتلك المقاهي التي ارتبطت بكبار المثقفين والأدباء العرب في القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مختلف دول العالم العربي، تشبه تلك الحالة التي شهدتها مقاهي أوروبا في العصر الحديث في ألمانيا والنمسا وفرنسا وإسبانيا، وغيرها من الدول الأوروبية.

كانت هذه المقاهي أهم الملتقيات الثقافية التي قامت بدور "الوسيط الثقافي" بين مختلف شرائح وفئات المجتمع، وعملت على لملمة شتات المثقفين والمبدعين وتقوية العلاقات بينهم من جهة، وتعميق الخلافات الفكرية والأدبية من جهة أخرى، لكنها على كل حال أسهمت بالتواصل الخلاّق بينهم، بغض النظر عن الحالة التنافسية التي أسهمت بها، وكون هذه المقاهي غير خاضعة للشكل الرسمي، مما خلق حرية أفرزت تميزاً في نوعية مرتاديها والموضوعات التي تطرح بها بشكل سلس.

وعلى المستوى المحلي تعتبر تجربة "المقهى الثقافي" شبه جديدة في المملكة، وإن كانت استكمالاً لتجربة الصالونات الثقافية التي ازدهرت في العالم العربي منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إلا أنها انحسرت كثيراً لظروف التغييرات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وبعد وجود العولمة كواقع لا يمكن إنكاره، أصبحت المقاهي (المودرن) بشكلها الحديث هي المكان البديل للمقاهي الخاصة بالأدباء والمثقفين سابقاً.

ربما يكون بحث المثقف-الشاب خصوصاً- عن هذه الأمكنة هو نتيجة رغبة بتكريس وجوده كمثقف في أجواء ثقافية حرة وسلسة، في ظل جمود المؤسسات الرسمية التي ما زالت تمارس تدوير الوجوه وترتادها نفسها، ولا ضير من أن تستمر على هذه الحال زمناً؛ لعدم قدرتها على استيعابها واستقطابها لمختلف الشرائح ببرامجها، وهذه من سلبياتها.

أما المقهى الثقافي، فمع أنه في الأصل مقهى تجاري، فقد حوّلته حالة التناغم بين المثقفين والمبدعين إلى مكان للوجود الثقافي-ضمن مساحة أكثر احتواءً واتساعاً- مما يوحي بدلالات مهمة إلى شيوع "الحوارية" كحالة خلاقة، دون أن يضفي الاجتماع في المقاهي الثقافي أي نوع من أنواع الوجاهة الثقافية والاجتماعية، بقدر ما يتيح مكاناً للتواصل وحالة للحوار تطرح فيها مختلف قضايا الساعة على جميع المستويات التي تهم المثقف، في أجواء من المتعة والهدوء والتواصل والحوار، في ظل رائحة القهوة وطعمها طبعاً!

وأؤكد أن بعض المشاريع الثقافية المهمة انطلقت من المقهى، إذ يكون المقهى أشبه بورشة عمل وهذه من ميزاته، فعلى الرغم من كونه يضم أناساً جاؤوا للمتعة وقضاء الوقت فيه فقط، إلا أنه يربط آخرين ممن يتشابهون في الاهتمامات ببعضهم بعضا، سواء في العمل الإداري أو الثقافي، وهذا يجعل المقهى يزيل الحواجز بين النخبة والمجتمع، غير أن بعض (المثقفين) ما زالوا يعتبرون وجودهم في المقهى خرقاً لهيبتهم و(برستيجهم) وهذا يدل على ارتباط علاقة أشباه المثقفين بالوجاهة الاجتماعية الزائفة والأبراج العاجية، فالمقهى الثقافي يعمل بشكل مواز إلى جانب مؤسسات الثقافة الأخرى، لكنه ربما يسهم بإنتاج حالة "حوارية" أفضل.

إن ظاهرة "المقهى الثقافي" ليست (قطعاً) للصلة مع المؤسسة الثقافية الرسمية بقدر ما هي (قطيعة) تخفف من بيروقراطيها ومشكلاتها، ولا سيما أن من يرتادونه عادة قد ألفوا بعضهم بعضا، وبينهم هم مشترك هو الثقافة المجردة، ومثل هذه المقاهي قد تعتبر نواة للمجتمع المدني مستقبلاً، وبالتالي فإن الاستثمار الثقافي/ التجاري الأمثل لمثل هذه المقاهي الثقافية هو دعوة رجال الأعمال للاستثمار الثقافي الواسع عبر المؤتمرات والندوات والإفادة من تجارب دول أخرى في هذا المجال، فهذه الملتقيات من دون دعمها كمؤسسات مجتمعية وإتاحة الفرصة لمرتاديها ليكونوا أعضاء إيجابيين وفاعلين في مجتمعهم فإن أثرها الثقافي سيكون محدوداً، رغم أن ثقافتنا المحلية أرض خصبة ومناسبة للاستثمار بـ"الحواريّة الثقافية" دون القفز على الأمن الاجتماعي، ويمكن بذلك تفعيل الركود الثقافي على الساحة المحلية، واجتذاب الشباب بوجود شراكة من نوع ما بين هذه الملتقيات والمؤسسات الثقافية الرسمية.

غير أن التقينات الحديثة في عالمنا المتطور باستمرار قد صنعت وجود (المقهى الافتراضي) وأعني بها وسائل التواصل الاجتماعي على الإنترنت التي صنعت عالماً خاصاً بالمستخدمين، يمكن من خلالها تحقيق التواصل والحوار من خلال الوجود الإلكتروني النشط، إلا أن هذا لا يؤثر سلباً على الوجود الطبيعي في المقهى الثقافي الذي لا يزال تجسيداً حقيقياً للتواصل الإنساني في الفضاء العام.