منذ أقل من شهر عدت على استحياء إلى الكتابة في صحيفة الوطن الغراء، وقالت الصحيفة تفاؤلاً ((جنون المقاطع ، تعيد زيلع إلى الكتابة)).
والحقيقة أنني حين كتبت عن ((جنون المقاطع من خارج الدوائر)) لم أكن قد حزمت أمري للعودة المنتظمة مطلقاً. كنت أقول لنفسي: ((دع الأمور تجري في أعنتها)) ، فالكتابة عن ذلك ((الجنون)) حالة خاصة وصاحبه كان واحداً من عشيرة الكُتّاب البؤساء، كان ولعله لا يزال مسكوناً بالحنين إلى أودية الوهم حيث توجد مضارب العشيرة السعيدة بالانتقال من وهم إلى وهم أكبر منه لغرض تغيير العالم بجملة نثرية، أو شعرية، أو بسطر، بكتاب، بموسوعة. إنه رجل يتفرج على الدنيا من شرفته الهادئة، فلماذا يصر على الدخول في غبارها، رجل استطاع أن يبقى شاباً .. فعلام العودة إلى عالم يحرض عليه كل قوى الشيخوخة الضعيفة، ووهن العظام. أغراني صفاء شبابه، ورؤيته الغضة فكتبت بعد طول انقطاع، راجياً أن يبعد الله عني وعنه ذلك المثل الكئيب: ((عمياء تخضب مجنونة)) على أن الجنون لا يزال محل خلاف في كل العصور: هل هو القاعدة، أم هو الإستثناء؟ فالأعراب الذين كانوا ينادون المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات ((أكثرهم ـ لا يعقلون))، فما بالك والعالم اليوم يتفرج أهله على بعضهم بعضا حتى في غرف النوم، ويقتل بعضه بعضاً باسم السلام! الكتَّاب وحدهم هم عقلاء العالم؛ بدليل أنهم نذروا وسخروا أنفسهم لترسيخ قيم النزاهة وهم يستجدون القرش ممن يسلبه علناً. هم وحدهم العقلاء؛ بدليل آخر: يصرخون مطالبين بإنصاف النساء ـ كل النساء ـ في الأرض، وهم مع ذلك وبحسن نية القبيلة يظلمون نساءهم في البيت، ومن الظلم ما خفي، فـ ((ظلم ذوي القربى أشد مضاضة)) من شخص يبيت مع الورق حتى مطلع الشمس، ثم ينام حتى مغربها. هم وحدهم العقلاء؛ يكتبون من أجل المعذبين في الأرض، أي من أجل أنفسهم! لكنهم طيبون وجادون، وأجواد بدليل إضافي؛ هو أن أحدهم قال ذات يوم ((ويا نفس جِدِّي ، إن دهرك هازل))، طيبون، وكرماء جداً، يضاعفون بجدهم وكرمهم رصيد المؤسسات الصحفية يومياً، ثم يرضون بالقليل. ولكن يا عبدالله ((خل عباد الله على الله))، فمن ((راقب الناس مات همّا))، ومن تركهم عاش غمّا. من صارحهم مات حمقاً، ومن جاملهم عاش ماشيا على جمر الغضا، أو كما قال أحد العذريين ((بكلٍ تداوينا فلم يُشفَ ما بنا))، ومن المعتقد أن ذلك العذري؛ بالقناعة التامة لم يتداو فصرخ من بين الحبال المعلقة شاكيا حيرته المحزنة... وإذا كان السقاف العائد من زمن المحبة والنقاء قد حرضني على العودة الحيية منذ شهر تقريباً. فإنني أعود الآن على استحياء أيضاً بسبب آخر مختلف كل الاختلاف. أفضى إلي أحد الأحبة؛ ممن لا يزال محتفظاً بنكهة الزمان الأول ونكهته بأمر زعزع نفسه، وحير عقله، طالباً الرأي والمشورة فقلبت الأمر على وجوه عديدة، فلم أظفر بما يعيد إلى صاحبي الرضا والهدوء، وآل بي الحال إلى فكرة عرضه على معاشر الكُتّاب المشغولين عن أنفسهم بهموم الناس. فلعلي أجد فيهم لصاحبي من ((يواسيه، أو يسليه، أو يتوجع))، لخص صاحبي قصته في الآتي:
لي ابنان طالبان في الثانوية العامة. يتشابهان في أشياء كثيرة، ويتمايزان في اتخاذ القرارات والاختيارات المتعلقة بكل واحد منهما؛ فاختار أحدهما وهو يكبر أخاه بربع ساعة أن يدرس ((العلوم)) ويتخصص (يختص) في مجال الهندسة. وحين أعلن قراره على العائلة رحت أردد مطلع قصيدة لإبراهيم مفتاح، كتبها يوم كان في سنه: ((سئمت هذي المدرسة ـ من جبرها ، والهندسة)) فلم يعبأ. والثاني اختار؛ أن يكون معلماً في اللغة العربية؛ من دون أن يعلن أو ينتظر رأي أحد. ومنذ أيام كنت أقرأ في صحيفة عكاظ.... رآني ولدي ((المهندس)) كما نلقبه تفاؤلاً فسأل ((أراك مستغرقاً في القراءة، ما الذي شدك من هذه الأوراق اليومية التي يفوق ترحها فرحها!))، ناولته الصحيفة مشيراً إلى الصفحة المدهشة. قرأها بتمعن وتركيز، ثم أعادها وعلى ملامحه أسئلة وتموجات قائلاً بتصميم نادر:
ـ ما لي وللهندسة، غيرت رأيي؛ فما زلت في مفترق الطرق. سأغير مساري وأسلك طريق القضاء! وجاء أخوه ((الأستاذ)) كما نلقبه أيضاً من أقصى القاعة يسعى ملوحاً بنسخة في يده، من العدد نفسه، يقول بصوت أقرب إلى الصراخ ((معك حق يا أخي))، إنها ليست لائحة ... ولكنها كالكتاب ((المرقوم، لا يشهده إلا المقربون)) قلت بصوت عال غاضب: مهلاً ، مهلاً ؛ القضاء أمر بعيد المنال بالنسبة لكما، والقاضي جدير بأكثر مما حوته اللائحة المباركة، رِجل في الجنة وأخرى في النار، لقد اخترت أنت أن تكون معلماً، و((كاد المعلم أن يكون فصولا)) فصحح ضاحكاً: (رسولاً). لكنه خطأ أروع من الصواب، والشعر ذاته ليس مقياساً للحياة. المعلمون دائماً في مهب النقد، حتى صاروا مضغة في ألسنة الصحف التي تصطاد غالباً أضعف الطيور. قال الأب الصديق: من ذلك اليوم ونحن في نقاش عقيم. فكل منهما يقول (( أما القضاء، وأما الفضاء (بالفاء الموحدة). أخشى أن تفوتهما كل القطارات وهما على حالهما المعلق، فما الرأي، ما الحل؟ يا أخي!..)). فما الحل، إخوتي الكتاب؟.