في الحياة نتخذ في اليوم الواحد العشرات من القرارات تتفاوت بين المهم واللامهم.. بعضها يتعلق بأمور هامة في حياتنا وتحديد مصائرنا وبعضها لا تأثير له، نوع الأكل والشرب والزيارة واللبس والمشتروات والقراءات والممارسات العلنية والسرية أمور يومية بل آنية وكلها تتطلب قرارا.. إذن، وهذا المهم، كل حياتنا مبنية على قرارات، وتلك القرارات تبنى على أمرين: معلومة أو حكمة، ويكون نجاح قراراتنا بقدر صدق المعلومة وحصافة الرأي.. أو الحكمة أو ما اصطلحنا على تسميته: "الدبرة"..

بعضنا يدعي المعرفة ويدلي بدلوه في أي مجال ولا يقف الأمر على ذلك بل يحتكر الحقيقة ويصر على امتلاك الصواب، ولو تعلق الأمر ببناء مفاعل ذري في الأفق لوجدنا مثل هؤلاء يقولون إنهم يستطيعون فعل ذلك. هل جربتم بعض الحوارات في بعض مجالسنا حينما يكون الحديث عن أمور حساسة تتعلق بالدين والفتوى كيف يشارك الجميع دون استثناء حتى ولو لم يكونوا متخصصين، حتى ولو لم يحملوا شهادات، وحتى لو لم يسمعوا بما سيدلون به من عالم، اجتهادات في غير مكانها، وآراء غير حصيفة وأطروحات ليست مبنية على علم.. والمشكلة ما يُبنى على تلك الأطروحات من قرارات تؤثر على إنجازاتنا وعلى سلوكيات بعض أفراد مجتمعنا لتكون النتيجة سلبية على مستوى التطوير وعلى مستوى السلوك والممارسات هنا أو هناك.

اتخاذ القرارات في بعض مؤسساتنا لو تعلق الأمر برسم سياسة أو إعداد خطة يتم اللجوء إلى عقد اجتماع لجنة يدعي بعض أو كل أعضائها معرفة وعلما وخبرة بالأمر وهنا الكارثة.. لأن البديل هو اللجوء إلى بحوث ودراسات تستنكنه الأمر وتتعمق فيه وتقدم معلومات موثقة وعلمية، يمكن بكل طمأنينة اتخاذ القرار ورسم السياسة واعتماد الاستراتيجية وتبني الخطط.. هذا الأمر للأسف لا يتم في مؤسساتنا أو قل في معظمها.. لا أدري من أين تأتي الثقة العمياء لبعض المسؤولين في أنفسهم وفي اللجان التي يشكلونها، لا لإجراء البحوث والدراسات، بل للمناقشة والخروج بقرارات.. هل تعرفون كيف تتقدم الشركات والمؤسسات العالمية؟ وهل تعرفون كيف تتقدم الأمم؟ ببساطة بسبب الاعتماد على الدراسات والبحوث. بعض الشركات التي وصلت إلى مستويات متقدمة وحققت نجاحات كبيرة تصرف عشرات المليارات سنويا فقط في البحث في كيفية تطوير نفسها.. نعم سنويا عشرات المليارات، والأمم المتقدمة لا ترسم سياساتها في اجتماعات لجان، بل على معلومات تخرج بها دراسات وبحوث علمية، أما نحن بالمقابل فلدينا أفراد وجماعات لا يؤمنون بالبحث العلمي.. ليس هذا فقط، بل أحيانا يتشدقون عندما يُقال لهم: ادرسوا الموضوع.. وهنا أؤكد على أن مثل هذه المؤسسات لا يمكن أن تتقدم حتى لو كان العاملون فيها من ألمع الخبراء وأذكى المتخصصين. لا أريد أن أضرب أمثلة من واقعنا حتى لا أستعدي أحدا، لكن عدم تقدم الكثير من مؤسساتنا هو بسبب اتخاذ القرارات غير المبنية على معلومات كافية.

خذوا هذا المثال البسيط: إحدى شركات السيارات العملاقة أرادت أن تفتح لها فرعا في إحدى دول شرق آسيا، وكإحدى الخطوات التي عملتها تلك الشركة أن تعاقدت مع أحد أساتذة العلاقات العامة والاتصال، فقط يبحث للشركة طريقة التفاهم مع مسؤولي تلك الدولة وتجنب ارتكاب أخطاء أثناء المفاوضات بسبب اختلاف الثقافات.. وبمبلغ مليوني دولار فقط لهذه الجزئية البسيطة.. لا يقدم معلومات عن الجدوى الاقتصادية.. ولا عن الخطة المالية ولا عن التمويل.. فقط كيف تسير المفاوضات والاتصالات بشكل سلسل وبدون أخطاء، لا تريد الشركة أن يجتهد فريق التفاوض في كيفية الاتصال مع الفريق الآخر بل يذهب وهو على وعي كامل بالعادات والتقاليد والأساليب الصحيحة للحوار وتفادي الأخطاء وكل ما يمكن أن يستفز الفريق الآخر، وفي النهاية يقدم هذا البحث الطرق والأساليب التي تكفل تفاوضا ناجحا يحقق أهداف الشركة، لا اجتهادات ولا اجتماعات ولا لجنة من قمم رؤوس أعضائها، ما يمكن وما لا يمكن عمله، احترام الإنسان لنفسه، واحترام العامل للعمل الذي يقوم به، واحترام المجتمع بأسره أن يتم الحديث ويتم الإدلاء بالرأي، ويتم إنجاز العمل، واتخاذ القرارات ورسم السياسات وإعداد الخطط وتبني الاستراتيجيات بناء على نتائج دراسات وبحوث علمية.

هل تعرفون في مجتمعنا فردا أو مسؤولا يسأل عن أمر أو يستنصح أو يُطلب منه رأي ويجيبك بعبارة: "لا أدري"، أو "لا أعرف". سأجتهد بالقول إنه من النادر أن تجد في مجتمعنا من تكون إجاباته بالعبارات السابقة، نحن بقدرة قادر نعرف كل شيء، ونقول كل شيء في كل شيء، وإذا كنا نحب أن نكيل من الإيجابيات ما الله به عليم، وبالمقابل نكيل من السلبيات ما يندى له الجبين، ولا نعي أن نتائج ما نقوله بدون علم من قول وما ندلي به من اقتراحات في العمل، وما نتطوع به من آراء دون دراية، له نتائج وخيمة بشكل أو بآخر.. سواء على المستوى الشخصي أو على من حولنا أو على إنجازاتنا في المؤسسات التي نعمل بها خاصة أم عامة.. المشكلة الكبرى في هذا الأمر ألا نحاسب على نتائج أقوالنا ولا على آرائنا، ولا على مستوى إنجازاتنا.. نأخذ القرار ونبني عليه أفعالا، فإذا لم تنجح فالأمر سهل.. نبدأ من جديد، وهكذا، لنراوح مكاننا.

وخلاصة القول: أقوالنا وأعمالنا قرارات نتخذها لها تأثير على المستوى الشخصي وعلى من حوالينا وعلى أعمالنا.. تلك القرارات في مجتمعنا لا نبنيها على معلومات مؤكدة، ندعي المعرفة وندعي الخبرة وندعيها في كل أمر وفي أي مجال.. ولهذا فلا داعي لأن نجري دراسات أو بحوثا لأي قرار نريد اتخاذه أو لسياسة نرغب في تبنيها.. ولهذا فلا توجد لدينا ثقافة البحث العلمي في مؤسساتنا، ولهذا فميزانيات البحوث متدنية ومع ذلك لا تصرف بالكامل. القول أو الرأي الذي لا يبنى على حقائق ومعلومات نتيجته مدمرة على كل المستويات: شخصية أم مجتمعية أم مؤسساتية. هل هذا هو قدرنا أم أنه في الإمكان أن نتغير؟