مُوجد هذا القرآن هو خالق الوجود، فلا عَجب إذاً أن يطابق القرآن ما في الوجود!، والإنسان جزء من هذا الوجود قد خصه الله بتوجيه الخطاب القرآني له ثم حبَاه بالقدرة على قراءة الوجود، ولأن الإنسان كفور قد جاءه التحدي الإلهي بأن يأتي بمثل هذا القرآن أو جزءا منه، فقَبّل الإنسان التحدي وراح يحاول ولا يزال حتى الساعة متأملاً أن يوجد الثغرات التي يَلج منها لإبطال القرآن، فباءت كل المحاولات بالفشل وستبوء في الغد، ولن يتعلم الإنسان من كل هذا الفشل المتعاقب أبداً وسيحاول ويحاول ولن يتوقف، حتى إن أيقن أن محاولاته ستفشل!

والمتأمل في أمر هذا التحدي ربما يتساءل: لماذا يتحدى الله على رغم علمه المسبق بأن الإنسان لن ينجح؟ والأغرب، لماذا يستمر الإنسان في خوض التحدي على رغم تتابع الفشل طيلة 1400عام؟! كلما تفكرت في هذه المسألة يقودني التفكير إلى أن الله لم يتحد الإنسان "فقط" ليقيم عليه الحجة أو ليثبت له بأن القرآن حق، على ورغم أن هذه الأمور تعتبر أجزاءً أساسية من الحقيقة إلا أن الجزء والهدف الأسمى من هذا التحدي هو تحفيز الإنسان وحثه عن طريق التحدي! فالله يعلم أن الإنسان سيقبل التحدي وسيمضي فيه، ويعلم أيضاً أن الإنسان لن يتراجع وإن أيقن الفشل، على رغم هذا قد تحداه الله بأن يأتي بمثل هذا القرآن لعلمه المسبق بأن هذا التحدي كفيل بتحفيز الإنسان على تطوير أدواته وقدراته، سواء كان مشككاً أو مؤمناً!

والطرف الثالث في هذا التحدي الإلهي القائم بين القرآن والمشككين هم المؤمنون، بل إنهم المحور الأساسي في هذا التحدي! فكما أن المشككين سيطورون من أدواتهم كذلك من يدافع عن القرآن سيطور من أدواته بشكل أكبر، حينها سيتجلى الإعجاز الحقيقي والأعظم للقرآن، بأن ينمي في المؤمن الرغبة الحقيقية للإنجاز والتطور والتقدم في شتى المجالات والعلوم، ولا أقول بأن التحدي هو الأداة الوحيدة للتحفيز، لكن الحديث هنا عن التحدي.

في الماضي كان التحدي "بلاغيا، بيانيا" – ولا يزال - فأثمر حينها أن طوّر المسلمين من قدراتهم البلاغية والبيانية للدرجة التي فاقوا بها حتى من نزل القرآن بينهم، فقاموا بتنقيط الحروف وتشكيلها ووضع القواعد المنظمة لها وأبدعوا في هذا العلم حتى خرج علماء أمثال "سيبويه، الجاحظ، الباقلاني، الجرجاني"، هؤلاء العلماء وغيرهم لم يبحروا في علم البلاغة والبيان بسبب تحدي القرآن للمشككين فقط، لكن وبشكل ما قد أثرت محاولات المشككين في تحفيز هؤلاء العلماء إلى أن أصبح علمهم إلى اليوم يعتبر علامة يستدل بها.

هنا سيطرأ سؤال: أي الإعجاز أعمق، أن يحتوي القرآن على آيات قمة في البلاغة، أم أن يكون إعجاز القرآن البلاغي دافعاً رئيسياً لأن يطور أهل البلاغة من أنفسهم، فيخرجون لنا كل هذا العلم اللغوي والبياني الضخم؟.. ولو أعدنا صياغة السؤال سنسأل: ما الحكمة من احتواء القرآن على كل هذا الإعجاز؟ أن يتفاخر المؤمنون بكون القرآن معجزاً أم أن يتخذوا من إعجاز القرآن دافعاً رئيسياً للإنجاز حتى يسهموا في إعمار الأرض!.. ها نحن اليوم نعيش فترة تشهد فيها الإنسانية تطوراً علمياً ضخماً على كافة الأصعدة، فبماذا شارك المسلمون؟ إننا لم نشارك حاضراً إلا في ما لا يسمن من جوع، لأننا لم نستثمر دهشتنا من الإعجاز القرآني، إننا لو عدنا للتاريخ سنجد السلف وفور انقطاع الوحي، راحوا يستثمرون تساؤلاتهم ودهشتهم حول إعجاز القرآن في بناء اتجاهات علمية متعددة أصبحت في ما بعد "فاصلة" في تاريخ البشرية يشار إليها بالبنان إلى اليوم.

من خلال ما سبق يتضح جلياً بأن الخلل ليس في القرآن -معاذ الله- ولا في خلو القرآن من الإعجاز، إنما في تعاطينا نحن مع الإعجاز القرآني -كعادتنا مع أي أمر آخر- إننا لم نسع منذ البدء إلى استخدام الإعجاز القرآني لإلجام الغرب وإفحامه، إنما أردنا مواساة أنفسنا بالإعجاز القرآني حتى نستسيغ هذا الواقع الذي نعاني فيه، بمعنى آخر أننا وعبر الإعجاز القرآني أردنا أن نهيئ لأنفسنا مساحة من الاطمئنان نتخفف فيها من عبء تخلفنا! ولهذا كان من الطبيعي أن يتحول الإعجاز إلى إزعاج نزاحم به الأمم التي تعمل وتتعلم دون أن نضيف شيئاً، وأن نضيف للإنسانية شيئاً يعني أن نقتدي بالسلف -حقاً- ونبدأ في الجمع بين قراءة الوجود -علمياً- وقراءة القرآن حتى نترك للأجيال اللاحقة ما يستحق أن يبنوا عليه لتستمر عجلة التقدم، لأننا حتى الآن لسنا أكثر من حلقة وصل - مفرَّغة - كل مهمتها إيصال مآثر السلف إلى الخلف، كأننا هنا مجرد فراغ سيتخطاه التاريخ أثناء عبوره من الماضي للمستقبل!

خلاصة القول: إن القرآن حق، والإعجاز في القرآن حق، ولا ينكر هذا الحق إلا متكبر مدرك قبل أن ينكر أن إنكاره باطل! لكنّ اكتفاءنا بترديد أن القرآن حق وأنه كتاب معجز، فهذا لن يفيد، طالما نحن نقف عند حد الإعجاب والاندهاش والتسبيح، دون أن نُتبع هذه الدهشة بإنجاز حضاري يعيدنا إلى المضمار.