كثيرا ما يردد الممثلون الخليجيون والسعوديون بشكل خاص أن الأزمة في الدراما العربية والمحلية هي في الأساس أزمة نص. بمعنى أن هناك ندرة في الأفكار وفي الصياغات النصية للأعمال الفنية. في الجهة المقابلة نجد أن السينما العالمية تكثر فيها عبارة أساسية، وهي أن العمل مقتبس من رواية. أي إن الاتصال بين الأدب والسينما هو جسر قوي يوفر للمشتغلين في السينما النصوص والأفكار الرئيسية، عدد كبير جدا من الأفلام الكبيرة والناجحة جاءت نتيجة هذا التواصل.

عربيا ومحليا الجسر مقطوع. فعلى رغم الكم المتزايد من الروايات السعودية التي وصل بعضها إلى جائزة البوكر العربية -"ترمي بشرر" لعبده خال، على سبيل المثال- إلا أن هذه الأعمال لم تجد صدى لها في الدراما. من التجارب الناجحة في هذا السياق، فيلم عمارة يعقوبيان لعادل إمام ونور الشريف، المقتبس من رواية رائعة بنفس الاسم لعادل الأسواني. وهذا امتداد لعلاقة مهمة وناجحة بين أعمال نجيب محفوظ الروائية والسينما المصرية. علاقة نجيب محفوظ مع المخرج المبدع صلاح أبو سيف تعتبر نقطة التقاء جوهرية بين عالم الرواية والسينما في الساحة المصرية. أفلام خان الخليلي، اللص والكلاب، ميرا مار والسكرية تعتبر علامات على هذا التواصل. إلا أن حالة التواصل بين محفوظ والسينما المصرية تقترب من كونها الاستثناء أكثر من كونها العادة خصوصا في سياق الدراما الخليجية. هذا الانقطاع بين الأدب والتمثيل يكلّف الكثير لأن العمل الفني التلفزيوني والسينمائي هو في المحصلة نتيجة اتصال بين فكر وفن وعلم وتقنية وتسويق، وبدون التواصل بين هذه العناصر لا يمكن الوصول إلى أعمال عالية المستوى. الأدب هو في النهاية خام العمل الفني ورصيده الأعمق، وبدون اتصال السينما به فإنها ستبقى بعيدة عن أهم رصد فني للسياقات الاجتماعية والإنسانية التي تحاول هذه السينما التواصل معها ونقلها للمشاهد.

دعونا نعد إلى فيلمنا اليوم "الأغنية الأخيرة" من إخراج JOLIE ROBINSON والذي لاقى نجاحات جيدة في صالات السينما العالمية. الفيلم مقتبس من رواية بنفس الاسم للروائي الأميركي الشهير NICHOLAS SPARKS الذي اقتبست من رواياته أفلام شهيرة ناجحة مثل:

Message in a Bottle, A Walk to Remember, The Notebook, Nights in Rodanthe, Dear John

روبنسن كاتب رومانسي ومتخصص في قصص الحب والعشق. وتمتاز أعماله بكشف مساحات كبيرة من تأثير الحب والعواطف في الحياة الإنسانية. فيلمنا اليوم هو قصة حب كلاسيكية في خطوطها العريضة ولكنها قصة تفتح مساحات عريضة للتأمل والتفكير من خلال قدرة المخرج على رسم مشاهد في غاية التأثير لمساحات هائلة داخل الروح البشرية. الأغنية الأخيرة (اسم الفيلم) تعني قصة حب جديدة. في الفيلم تولد من رحم الموسيقى الأخيرة قصة حب وليدة يافعة مشرقة. شخصيا طالما شعرت بقدرة الموسيقى على خلق الحب ورعايته والحفاظ عليه. تأتي الأغنية الأخيرة لتكون بمثابة الأم لهذا الوليد الجديد، قصة الحب الصغيرة. وككل الكائنات الحيّة تواجه مولودتنا الصغيرة صعوبات في الاستمرار على قيد الحياة، صعوبات حقيقية تصل لدرجة أننا نعتقد أنها لن تنجو، ليبدأ الحزن والبكاء، ولكننا لا نلبث إلا أن نسمع نبضات قلب صغير تتزايد شيئا فشيئا مصحوبة بروح أمها، لأغنية العطوف الرحوم. الفيلم هو في الختام قصة حب يتابع المشاهدون ولادتها ونموها والصعوبات التي تواجهها. تكثيف قصة حياة كاملة يساعدنا أحيانا في إدراك أن هذا الحب في الأخير يشبهنا أو أن له حياة وتجربة وصعوبات لا تختلف عن ما يمرّ به كل فرد منّا. الحب هنا هو حكاية يتم إنتاجها عبر تجربة الحياة ولا يمكن فهمها دون تفاصيلها اليومية ودقائقها الصغيرة. هنا برأيي نقطة نجاح ساحقة للفيلم.

كاتب العمل نيكولاس سباركس، كما ذكرنا، هو متخصص في الروايات الرومانسية. أحب هنا أن ألقي إضاءة بسيطة على أهمية هذه الأعمال، خصوصا للمراهقين والمراهقات. أحد معاني الفيلم العميقة هو أن الحب طاقة عظيمة نستطيع من خلالها مواجهة صعوبات كثيرة نواجهها في حياتنا بسبب ظروف قاسية، غالبا لم يكن لنا يد فيها. الحب هنا هو طاقة لمقاومة الماضي والتاريخ وربما التصالح معه وإعادة النظر فيه من جديد. الحب هنا هو وجهة نظر مختلفة تجعل العالم يبدو لنا بشكل جديد وربما، من يدري، يكون هو العالم الذي بحثنا عنه كثيرا وحان وقت التجربة. هذه الطاقة وهذه التجربة مهمة جدا للجميع ولكنها للمراهقات والمراهقين أكثر أهمية. المراهقة فترة وعي حساسة بطبيعة العلاقات الاجتماعية التي نعيش فيها وبالمعنى الذي تخلقه للحياة. المراهقة هي حالة استفاقة من عالم الطفولة البريء. هذه الاستفاقة تحمل معها عادة مفاجآت وتصوّرات حادة. الحب هنا هو طاقة قد تساعد تلك المراهقة وذلك المراهق على مواجهة العالم الجديد، العالم الذي يبدو مختلفا عن ما قدمته لهم براءة الطفولة. الحب هنا هو رفيق درب في مرحلة من أهم مراحل الحياة. هو حالة من الدفء تغمر قلوب الناس وتحميهم من الجفاف الذي يجعل من الشر واليأس والإحباط احتمالات واقعية وتتوافق مع الظروف والعالم الذي نعيشه. الحب بالنسبة للمراهقة والمراهق إعلان أمان بأنه لا يزال في هذا العالم من يستحق أن نعيش من أجله. لكن لننتبه، فالصورة ليست جميلة دائما والحب كائن رقيق وعرضة للخطر باستمرار، خصوصا في المجتمعات التي لا تعترف به وتعتبره خطرا تجب مقاومته.

متابعة الفيلم جذّابة جدا وتدفع باتجاه حالة من التماهي عالي الدرجة، استطاع المخرج بحرفية إيصال المشاهدين لها. شخصيا كان مشهد قاعة السينما في نهاية الفيلم غاية في الجمال، باختصار، استطاع الحب أن يرسم ملامحه على وجوه الحضور.