ناقش المقال السابق التهديدات المستقبلية التي تواجه المحيط الهندي كمسطح رئيس يربط بين الشرق والغرب، وتكمن حقيقة هذا التهديد من خلال نزع احتكار المحيط الهندي لخط التجارة الأساس بين جانبي العالم، وذلك بسبب نشوء خط جديد يمر عبر المحيط القطبي الشمالي، وهو الخط الذي بدأت فاعليته بالظهور نتيجة ذوبان الجليد مما يجعله قابلا للاستخدام (viable) أكثر مع الوقت. ومن ثم فإن التحدي أمام الدول العربية (الخليجية على وجه الخصوص) وكذلك الدول المطلة على المحيط أو تلك المعنية به بشكل رئيس (مثل مصر والصين) هو كيفية الحفاظ على المحيط الهندي كمسطح رئيس للنقل التجاري والربط بين الشرق والغرب، وتعد فكرة إنشاء مجلس يجمع هذه الدول مقترحا يستهدف الالتفاف على التحديات المستقبيلة التي يمكن أن تنشأ من التنافس المستقبلي بين خطوط التجارة العالمية، خاصة وأن انعكاسات نشوء خط نقل تجاري رئيسي جديد بين الشرق والغرب من خلال منطقة القطب الشمالي لا تتوقف تأثيراتها عند حدود المنفعة التجارية بل تتجاوزها لتؤثر على كامل منظومة الأمن في منطقة المحيط الهندي وعلى علاقات الدول المطلة عليه.
إن نشوء خط نقل جديد من خلال المحيط القطبي الشمالي سيعني نشوء بديل لخطوط النقل عبر المحيط الهندي، مما يعني نزع الصفة الاحتكارية للمحيط الهندي، وبالتالي انخفاض الأهمية الاستراتيجية له مع ما يتبع ذلك من انعكاسات عسكرية، فوجود البديل سيفتح الباب لانسحاب القوى العظمى من الوجود عسكريا وسياسيا في المحيط الهندي، خاصة مع ازدياد التهديد في المحيط الهندي، سواء بسبب القرصنة قبالة سواحل القرن الأفريقي أو حتى بسبب التوترات السياسية وهي متعددة، سواء بين دول الخليج وإيران أو بين الهند وباكستان أو في شرق المحيط نتيجة الوجود الصيني المتصاعد. ومن شأن الانسحاب الغربي وخاصة للولايات المتحدة من منطقة المحيط الهندي، أن يتسبب في نشوء فراغ سياسي قد يقود لمزيد من الصراع أو التوتر بين الدول المتعددة المطلة على المحيط، وكلما زاد هذا التوتر ارتفعت أهمية وقابلية البديل المتمثل في خط الشمال البحري (Northern Sea Route) عبر محيط القطب الشمالي.
لقد احتكرت الولايات المتحدة على مدى عقود مسرح المحيط الهندي لقواتها البحرية، وشكل هذا الاحتكار العسكري ضمانة أمنية لكامل منطقة المحيط، سواء فيما يتعلق بالأمن المباشر لخطوط النقل أو فيما يتعلق بالإدارة السياسية لأي صراعات أو توترات قد تنشأ فيه. لكن في المقابل كشفت السنوات الأخيرة عن رغبة أميركية متزايدة للخروج من المحيط الهندي عسكريا وسياسيا، سواء من خلال الاستراتيجية الأميركية الدفاعية الجديدة القائمة على إعادة التمركز في المحيط الهادي أو حتى من خلال نأي الولايات المتحدة عن تحمل المسؤولية الأكبر في معالجة ملف القرصنة أمام سواحل الصومال، ومع الغياب التدريجي للهيمنة الأميركية على المحيط الهندي ترتفع الحاجة لإيجاد منظومة بديلة لتنظيم الأوضاع السياسية للمحيط الهندي وحفظ الأمن فيه ومنع أو إدارة أي صراعات وتوترات قد تنشأ مستقبلا.
لقد كشفت لنا مشكلة القرصنة في الصومال عن الحاجة الماسة لمنطقة المحيط الهندي لنوع من الإدارة والتنظيم المعنيين بحفظ الأمن وتنسيق الجهود، فالمحيط الهندي رغم أهميته الرئيسية للتجارة العالمية (ولنا كونه خط النقل الأساس لنفطنا) يفتقر لوجود مظلة سياسية تجمع دوله وتتيح نوعا من أنواع الإدارة والتنظيم له، ولولا جهود حلف الناتو في معالجة وتنظيم جهود مواجهة القرصنة في الصومال لربما كانت هذه المشكلة مستمرة إلى اليوم وبشكل متزايد. في المقابل كشفت مشكلة القرصنة في الصومال عن استعداد دول المحيط الهندي لتحمل مزيد من المسؤولية لتأمين مجالها الحيوي، فبالإضافة للقوات البحرية الأميركية والأوروبية (التابعة للناتو) التي وجدت غرب المحيط الهندي لتأمينه، قامت كل من السعودية والهند وباكستان وحتى أستراليا وماليزيا بإرسال قوات بحرية وجوية للمساهمة في تأمين تلك المنطقة وخاصة خليج عدن، وهو ما يوضح إمكانية قيام دول المحيط الهندي في حال وجود مظلة تنسيق سياسي، أن تعمل بنفسها على حماية مجالها الحيوي أو على أقل تقدير اكتساب قدرة المبادرة لذلك.
من جهة أخرى، كشفت التهديدات الإيرانية المتعددة بإغلاق مضيق هرمز عن وجود قصور في منظومة الاتفاقيات الأمنية والاتفاقيات الضامنة لحرية التجارة في المحيط الهندي، مما حول التهديدات الإيرانية لورقة سياسية بينها وبين دول الخليج والغرب، رغم كون المتضرر الرئيس من مثل هذه التهديدات هي دول الشرق (الصين والهند واليابان وكوريا وغيرها) وهو ما يفتح الباب للتساؤل حول إمكانية إيجاد منظومة جديدة تفرض على دول المحيط الهندي لعب دور أكبر في تحجيم أي تهديدات مستقبلية من إيران يمكن أن تنعكس سلبا على التجارة وخطوط النقل في المحيط الهندي.
حوالى 50% من حجم التجارة العالمية التي تتم بالنقل البحري تمر في المحيط الهندي وكذلك حوالى 80% من حجم تجارة النفط التي تتم من خلال الناقلات. في المقابل فإن نصف النزاعات المسلحة في العالم في منطقة المحيط الهندي و11 دولة من ضمن أكثر من 20 دولة فاشلة في العالم تقع في منطقة المحيط الهندي. وما لم يتم إيجاد وسيلة لتنظيم شؤون المحيط الهندي فإن الانسحاب المتوقع مستقبلا للولايات المتحدة من هذه المنطقة، أو على أقل تقدير انخفاض هيمنتها العسكرية والسياسية فيه، سيجعل من منطقة المحيط الهندي، لا محالة، مسرح الصراع العالمي الجديد.
في هذا الشأن تبدو رابطة الدول المطلة على المحيط الهندي للتعاون الإقليمي (Indian Ocean Rim-Association for Regional Cooperation) والتي أنشئت عام 1997 (وتتضمن ثلاث دول عربية: الإمارات وعمان واليمن) مدخلا جيدا للبناء نحو مجلس للمحيط الهندي يكون أكثر فاعلية في إدارة منطقة المحيط الهندي، فهذه الرابطة حتى الآن لا تزال مجرد آلية فضفاضة للتعاون في المجال الاقتصادي فقط بين دولها، ومن شأن توسيع عضوية الرابطة، مع إدخال البعد الأمني لميثاقها وعنصر الإلزام لقراراتها، أن يكون لدول المحيط الهندي كيانها السياسي القادر على تحجيم وإدارة الصراعات المستقبلية فيه.