كان من فضل الله على هذه البلاد أن تكون حاضنة الحرمين الشريفين، وموئل أفئدة المؤمنين في كل مكان، فحازت شرف المكان وشرف الزمان، ووهبها الله أن تقوم على هذه الشعيرة العظيمة التي ارتبطت منذ ذلك اليوم الذي أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام بأن يؤذن للناس في الحج (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)، فلم تنقطع الوفود إلى هذا البيت لا في جاهلية ولا إسلام، كلهم يؤم البيت الذي جعله الله (مثابة للناس وأمناً).

وفي الحج تتجلى المعاني العظيمة التي تقدم للدنيا كلها، فهو المكان الذي يجتمع فيه خلق عظيم من الناس، لا فرق بين أبيضهم وأسودهم، ذكرهم وأنثاهم، عربيهم وعجميهم إلا بالتقوى والقرب من الله، لباسهم وعبادتهم ووجهتهم واحدة، هو تطبيق عملي لتلك القيم التي تسعى إليها البشرية، حين تزول الفروقات بين الناس ليتوجهوا لرب واحد، وقبلة واحدة، ومشاعر واحدة، وشعائر واحدة.

يأتي قوم منهم من أقصى الشرق وأناس من أقصى الغرب.. يجتمعون تحت راية التوحيد، وسلامة المقصد، وإقامة الركن العظيم، يتذكرون في تلك المشاعر وقفة النبي الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي أعطى الناس الدرس العظيم، حين قام معلناً للعالمين قيم الدين وقواعد الديانة وأساس التوحيد، استنطق الناس بالشهادة فشهدوا أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وتركها على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.

(الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، هكذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وتأمل في كلمة "مبرور" التي تعني الخالي من الرفث والفسوق (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، فهو في هذا المعنى دورة تدريبية للنفس الإنسانية، الصبر على التحمل والعبادة والانقطاع لها، التأمل في تاريخ الإنسانية ومسيرة الأنبياء، يقارب الإنسان من معنى التوجه للإله الخالق والرب العظيم (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). إنها مواقف تدك كل الأنفة الإنسانية على الآخرين حين يتجرد من ملابسه، فهو وإن كان مقدماً في قومه، أو صاحب مال وفير فهو يسير كما يسير غيره، ويهتف كما يهتف غيره، تتضعضع النفوس المتكبرة أمام مشهد الرهبة واللجوء إلى الله رب العالمين، فيبلغ الإنسان نشوته الروحية في تلك المشاعر والعرصات، وتجتمع القلوب على صعيد عرفات، كلهم يترقب تلك الساعة العظيمة التي يستجيب الله لعباده فيها ويعطي كل نفس ما تؤمل.

إن الحركة الدائرية المتحركة على مدار التاريخ، والطواف الذي هو من شعائر الله تعلن مركزية "أم القرى" التي تتمحور حولها كل الدنيا، وكأنها ترسم لها بوصلتها وقيمة وجودها، حين تتدفق الألوان والأجناس والأعراق من كل مكان، لتجتمع حول "الكعبة المشرفة" معلنة التوحيد، مكسرة الحواجز والاختلافات، مقاربة للناس معنى الرب الواحد والدين الواحد والمصير الواحد، كلها متفقة على النشأة والسيروة والمعاد، فهي بحق تمثل معنى الجامعة العالمية التي تصوغ الناس في إطار الدين الخاتم والنبي الخاتم والقيم الخالدة.

إن كل حركة وكل سكنة وكل ارتحال في تلك المشاعر تجعل المسلم وكأنه يضع خطاه على خطى تلك الكوكبة العظيمة من الأنبياء التي حجت البيت وقصدته، ثم النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام مع صحابته، فيرتبط الإنسان المسلم شعورياً في كل سنة بتلك المثل العليا، وكأنه يذكر الأمة بتاريخها الذي يجب أن ترتبط فيه، وسنة الأنبياء التي اجتمعوا عليها، وبدأها أبوهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وهو شعور وجده النبي صلى الله عليه وسلم (فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق، فقال: أي واد هذا؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطا من الثنية – المرتفع من الأرض - وله جؤار – صوت مرتفع - إلى الله بالتلبية، ثم أتى على ثنية هَرْشى – جبل قريب من الجحفة - فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: ثنية هرشى، قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة – كثيرة اللحم - عليه جبة من صوف خطام ناقته خُلبة – ليف - وهو يلبي).

والناس في تلمس هذه الحقائق والدروس والعبر من الحج مختلفون، فمنهم من يرجع من الحج وقد استشعر المعاني العظيمة، فارتفع الإيمان وزاد اليقين وفهم المراد، ومن الناس من يرجع وقد تحمل الآثام والذنوب، لأنه قد جرد العبادة من معانيها ومقاصدها، فلم يستفد من هذه الفرصة التي أتاحها الله له..

وفق الله الحجيج لإتمام حجهم وهم ينعمون بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.. آمين.