يتأثر بالاضطرابات النفسية اليوم، ما يقرب من 12% من سكان العالم، أي حوالي 450 مليون شخص، والخميس الماضي صادف اليوم العالمي للصحة النفسية ـ منظمة دولية أعضاؤها في أكثر من 150 دولة ـ كمناسبة سنوية تدعمها الأمم المتحدة، يحتفل العالم فيها كل عام من يوم 10 أكتوبر لإذكاء الوعي العام بقضايا الصحة النفسية وإجراء مناقشات مفتوحة عن الأمراض النفسية المنتشرة ووسائل للبحث عن الطرق المتوافرة للوقاية والعلاج منها، ولعلي هنا ومع المناسبة، أعرج إلى عدة نقاط تهم الصحة النفسية في وطني.

إن كثيراً منا أصبح يشتكي من رتابة الحياة ومللها، وكثرة صراعات الحياة نحو كرامتها المأمولة، ولو تأملنا حياتنا المتسارعة، وأزماتنا المتعددة التي تئن بين إيقاع حياتنا من جهة، وممارساتنا التربوية الاجتماعية والأعباء الاقتصادية من جهات أخرى، لوجدنا تمازجا مع انتقال مباشر ـ لم نكن نعد أو نعتد به يوما ـ إلى غياهب حياة مادية زائفة بكل معانيها، مما عكس نتائجها علينا وعلى صحتنا وقوالب تفكيرنا جمودا واحتقانا، لتورث جميعها أنواعا من الكآبة والقلق والاحتقان وأمراض "نفسجسمية" وأكثر!.

أفراد مجتمعنا من كل الأعمار والطبقات الاقتصادية والبيئات الاجتماعية المختلفة يعانون ضغوطاً حياتية عدة مع تغيرات اجتماعية سريعة طرأت عليه، ورسائل سلبية نفسية تملؤه حد الضجيج عززها مؤخراً كثير من التويتريين والفيسبوكيين والواتس آبيين...، وأسباب هنا وهناك، حتى غدت المشكلات النفسية تتفاقم فيه بازدياد.

التكريس الخاطئ والمبني على الجهل وعدم الوعي بطبيعة الأمراض النفسية والعلاج النفسي أدت بنا إلى الحساسية المفرطة نحو كل ما يخص "الطب النفسي" والإحجام عن الذهاب إلى مستشاريه أو متخصصيه، وما زالت كلمة "مجنون" تسبب رهاباً وتسيطر على كل من تسول له نفسه الذهاب إلى عيادة نفسية أو حتى يتفوه بها أو يتعاطى أدويتها المخدرة ذات الإدمان البحت!.. وليحل بديلاً عنها كثير من المشعوذين والرقاة الجاهلين المستغلين لأوضاع الناس المتردية نفسياً.. باختصار غريب؛ كثير منا يتردد مليون مرة خجلاً وخوفاً من الوصم بالجنون لزيارة مستشار نفسي ومن السهل والطبيعي جداً مراجعة دجال أو راقٍ غير مختص ودون تردد!.

ومنعطف آخر من نفس المشكلة نحو العلاج النفسي وأدويته، أن تجد الأمراض النفسية تتدرج من اضطراب بسيط يمكن علاجه بالإرشاد النفسي ويمكن أن يصل إلى فصام عقلي شديد الاضطراب لا يعالج إلا دوائياً، فأمراض القلق والاكتئاب والهستيريا واضطرابات النوم والأطفال... يمكن علاجها، كما أن هناك نسبة قليلة من الأمراض النفسية يصعب شفاؤها لكن يتحكم بها من قبل الأدوية مثلها مثل أمراض الضغط والسكر..

القوالب والمفاهيم والمعتقدات الخاطئة عن الطب النفسي التي مازلنا نعيشها مهم أن تتغير في عصرنا "المحتقن" أمراضاً نفسية، وهنا يأتي دور وزارة الصحة بعقد شراكات إعلامية مع المهتمين والمتخصصين بالصحة النفسية ليمحوا الصورة المكتسبة السيئة توارثاً لدى مجتمعنا، ومساعدته في إيصال الحقائق العلمية وبالأرقام والحلول عن الأمراض النفسية وطرق الوقاية والعلاج منها، حتى يأتي اليوم الذي تكون فيه زيارة العيادة النفسية كأي عيادة أخرى!.

في المملكة لا توجد إحصائيات "دقيقة" للأمراض النفسية السائدة، وذلك لحساسية كثير من الناس نحوها وعدم إفصاحهم عنها، وحسب آخر إحصائية ـ وجدتها ـ صادرة عن الصحة النفسية والاجتماعية في وزارة الصحة عام 1432 توضح ارتفاع نسب الأمراض النفسية في المجتمع؛ فحوالي نصف مليون مريض نفسيا يراجع العيادات النفسية في المستشفيات والمراكز والعيادات الخاصة، ونسبة المرضى نفسيا المنومين في المستشفيات تتجاوز العشرين ألف مريض، والذين لم يجدوا عناية أو سريراً يفوق ذلك كثيراً، ورغم هذه الأرقام وصحتها نأمل أن تكون لدينا مراكز إحصاء ومسح شامل لعدد المرضى وللأمراض النفسية وأسبابها.

"علم النفس" وفروعه وتطبيقاته من أهم العلوم الإنسانية وأقواها علاجاً وفهماً وتحليلاً لسبر أغوار النفس البشرية بكل أبعادها.. وكما سماه تاريخ الفلسفة بـ(طب التهذيب) أو (هندسة الأخلاق)، ولكنه ـ للأسف ـ يضاف إلى مسلسل التغييب للتربية النفسية والصحية والإنسانية في ثقافتنا ومدارسنا وجامعاتنا.. لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى بناء برامج توعويّة وثقافة نفسيّة توضح أهمية علم النفس وتطبيقاته مع دعم دراساته وأبحاثه ومتخصصيه.. فالنفس البشرية وكرامتها وصحتها تستحق الكثير، وكل عام و"نفسياتنا" بخير!.