د. خالد عبدالرحمن الجريسي

الرئيس التنفيذي لشركة

بيت الرياض


تحدثت في المقال السابق عن مدى حكمة قرار صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف، والقاضي بمنح سوق العمل السعودي الفرصة لتنظيم أوضاع "العمالة" بشكل مناسب لكل من صاحب العمل وعمالته الوافدة، وما اتسم به ذلك القرار من مرونة تجاوزت حدود الروتين والبيروقراطية.

إن تنظيم أوضاع "العمالة" تنظيما يتناسب مع القوانين المعتبرة في المملكة بات أمرا في غاية الضرورة، فهو يضمن لمنشآت سوق العمل ـ كبيرها وصغيرها ـ تحقيق مشاريع ذات جدوى اقتصادية، ويحقق لعموم الحركة الاقتصادية مرونة وازدهارا.

ونتوقع ـ حال إتمام تطبيق وزارة الداخلية هذا التنظيم ـ أن تشهد عجلة الاقتصاد مزيدا من النمو في زمن قياسي، لكن في الوقت نفسه فإن قرارا حكيما بهذا الحجم يقتضي تنفيذه الإجرائي قدرا مماثلا من الحكمة، يتمثل في:

1- ضرورة التدرج في تطبيقه، لمدة زمنية مناسبة.

2- منح المنشآت فرصة كافية لتصحيح أوضاع العاملين فيها وفق ما يقتضيه النظام.

فلا يخفى أن سوق العمل قد يتأثر سلبا حال التطبيق غير المتدرج لهذا القرار، خاصة في ظل الإهمال الذي امتد لسنوات طويلة، ما جعل سوق العمل تعج بالأيدي العاملة المخالفة لنظام العمل بوجه أو بآخر. وإن تطبيق الأنظمة بهذه الصرامة وعدم التدرج المناسب فيها قد ينشأ عنه مشكلات أخرى، فالمنشآت الكبيرة ستتأثر تأثرا سلبيا، والصغيرة قد تنتهي أو يبقى منها عدد محدود.

ثم إن استحداث مشاريع استثمار ـ في ظل التطبيق الشامل ـ في زمن قصير قد يخفف من جدوى تلك المشاريع، ما يؤدي إلى انحسار فيها، ولو على المدى البعيد، حيث إن من أولويات المستثمر توافر مناخ اقتصادي مرن ومستقر، يتيح أكبر قدر متوقع لإنجاح مشروعه.

وفي جانب آخر، لو نظرنا إلى الكفاءات الوطنية وضرورة إسهامها في تنمية الاقتصاد الوطني، فإن إحلالها محل الأيدي العاملة الوافدة يتطلب أيضا تدرجا بما لا يؤثر سلبا في مصلحة منشآت العمل، وإن الكفاءات الأجنبية خارج المملكة قد تحجم إحجاما كبيرا عن الإقبال إليها في ظل التطبيق الصارم لهذا القرار، وهذا ما يُفقد المملكة خبرات وكفاءات تحتاج إليها وهي غير متوافرة محليا.

إن ولاة الأمر ـ سدد الله خطاهم ـ يضعون نصب أعينهم مشكلات البطالة، ويوجهون جميع القطاعات الحكومية ذات العلاقة إلى وضع الحلول المناسبة لها، وعلى تلك القطاعات ـ وهي تخطط لمعالجة البطالة ـ أن تراعي عددا من الأمور والأولويات، وعلى رأسها: ألا تؤدي تلك الحلول إلى خلق بطالة مقنعة تكون عبئا على الاقتصاد الوطني فيما بعد.

إن الفرصة التي مُنحت لتصحيح أوضاع سوق العمل ـ مع أهميتها وحكمة القائمين عليها ـ بحاجة إلى آلية زمنية متدرجة قد تمتد لسنوات.

إن سوق العمل ـ بلا شك ـ بحاجة إلى توطين الوظائف، لكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب الخبرات والكفاءات.

والسوق بحاجة إلى "سعودة" الوظائف، لكن ليس على حساب إضعاف القطاع الخاص وتكبيده خسائر مالية أو الحد من نتائجه.

وهي بحاجة أيضا إلى "سعودة" الوظائف في المصانع وخطوط الإنتاج، لكن ليس على حساب استمرار المصنع ونجاحه.

ولا نستطيع أن نحقق هذا التوازن المطلوب إلا بشيء من التدرج في نزع مَواطن الضعف واستبدال أخرى صحيحة وقوية بها، ولا يتأتى ذلك إلا بتوفير آليات لتدريب الشباب وتأهيلهم تأهيلا حقيقيا لسوق العمل، وتوفير آلية لنقل الخبرة من الأيدي العاملة الوافدة إلى الأيدي المواطنة بأسلوب سلس وإيجابي.

إن السوق تعاني من ندرة في الكوادر الوطنية المؤهلة، ونقص في الخبرات والكفايات مما يعد عقبة كأداء في طريق تطبيق هذه القرارات في المدة الزمنية المعلن عنها، وهذا يعني الحاجة إلى المزيد من الدراسات والبحث عن أنجع السبل للحفاظ على مكتسبات سوق العمل السعودية وعدم الإضرار بها.

إن الصرامة والحزم مع التدرج، كل ذلك كفيل بتوطين الوظائف واكتساب مزيد من الخبرات أيضا، وإن اختزال المراحل الزمنية وعدم التدرج قد يخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، بل قد يسهم في هجرة الكثير من رؤوس الأموال التي تبحث عن مناخات استثمارية أكثر ملاءمة واستقرارا.

كما أن الرفق في تنفيذ تلك القرارات مطلب أخلاقي وشرعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع عن شيء إلا شانه"، وخاصة الرفق في التعامل مع العمالة المقيمة بين أظهرنا، التي يستوجب النظام الاستغناء عنهم وإحلال مواطنين مكانهم، فهؤلاء ينبغي أن يغادرون بلادنا وهم يحملون لنا في أنفسهم كل الود، ولن يتأتى ذلك إلا بالحرص على حصولهم على حقوقهم، وحفظ كرامتهم من أن تنال؛ لأنهم سيكونون سفراء لنا بين أهليهم إذا عادوا إليهم، ومن المصلحة أن تكون الصورة التي ينقلونها مشرقة وضاءة، تحفظ للملكة مكانتها في قلوب المسلمين.

لذا، ومن منطلق الحرص البالغ على تنفيذ هذا القرار، فإنه ينبغي علينا أن نحرص بالقدر نفسه على تحقيق الأهداف المتوخاة منه، بما يضمن للمملكة الحبيبة استقرارا اقتصاديا، وتسارعا في عجلة النمو، وسمعة طيبة بين الشعوب الأخرى.