خلال السنوات الثلاث الأخيرة تحديداً، انطلقت مبادرات فيسبوكية من هنا وهناك، حملت مزيجاً من دماء عشق الشباب والشيوخ معاً، لضاحية "تاريخية" جدة الواقعة في المنطقة المركزية بالبلد، بغرض إحياء تراثها حتى لا تضمحل بسبب عوامل تعرية "المكان والزمان"، وإن كان سبقهما عامل أكثر حساسية في طور النسيان وهو "الإنسان الجداوي".

المبادرات الإنترنتية التي تنوعت، لم تجد طريقها إلى تحقيق حلمها إلا واحدة منها فقط، ابتعدت عن الدعم الرسمي من هيئة السياحة والآثار وقامت بدورها على الأرض، ومن مالها الخاص، للحفاظ على ما تبقى من هوية هذا المكان الذي يحمل إرثاً تاريخياً يمتد لأكثر من 3 آلاف سنة، وبه تعاقبت تواريخ مهمة كانت في الإطار العام مفصلية رسمت معالم جديدة على طول امتداد البحر الأحمر.

خمسة أسماء جمعتهم التاريخية بوصال عشقها، وستتذكرهم الأجيال التي ستعقبهم سواء كانوا أبناءهم من بعدهم أو أبناء "العروس" هم: "الدكتور محمود الصعيدي، ومازن السقاف، ومنصور الزامل، ومحمد السنوسي، وطلال الخوتاني". واستطاع هؤلاء "النفر القليل"، القيام بما لم تقم به جهات الاختصاص المعنية بحفظ التراث، كما استطاعوا تدوين وحفظ جزء من هوية "التاريخية" من الضياع. ولم يكتفوا بتسجيل تاريخ المنطقة في موسوعة ويكبيديا العالمية أو الاكتفاء بالسرد التاريخي في بطون الكتب التي نشرت خلال الفترات الماضية.


حارة اليمن

حينما تطأ بأقدامك حارة اليمن (إحدى الحارات الأربع الرئيسة التي شكلت المدينة القديمة داخل السور قبل هدمه في 1947)، وتحديداً بالجانب الأيمن من برحة نصيف الشهيرة، سيدهشك مطل يقابلك وأنت قادم من اتجاه سوق العلوي، وسينبعث الفضول الذي بداخلك وأنت تشاهد الأنتيكات الكلاسيكية الظاهرة أمامك ببانوراما فنية عالية، لتسأل عن هذا المكان الذي لم يأخذ حظه ولا نصيبه في دائرة الاهتمام الإعلامي.

تعود فكرة تأسيس المكان الذي تتصدره اللوحة الرئيسية باسم "مقعد جدة وأيامنا الحلوة"، كمبادرة من قبل المركز الوطني للأبحاث والتوثيق بالمنطقة التاريخية، الذي يعرف اختصاراً بـ"توثيق"، ويشرف عليه "خماسي" عشق هذه المنطقة، ولم يمض على افتتاحه سوى شهر ونصف الشهر تقريباً. ويشير المشرف العام على المقعد الدكتور محمود الصعيدي في تصريح إلى "الوطن"، إلى الأهداف المرسومة من هذه المبادرة، موضحاً أن أولها حب المجموعة للضاحية التاريخية، وثانيها تعريف الأجيال الجديدة من فئة الشباب بتراث المنطقة، وهي الجزئية التي ركز عليها كثيراً الدكتور الصعيدي، والتي بدت فيها علامات انزعاجه بقوله "الجيل الجديد لا يعرف شيئاً عن العمق الذي تمثله التاريخية بالنسبة لجدة، فهي المنبع الذي تستمد منه العروس عراقتها التي عرفت بها بين سكان الكون".

أما الاعتبار أو الهدف الثالث الذي سلط عليه الصعيدي – وهو موظف سابق بالخطوط السعودية – هو المحاولة الجادة للحفاظ على جزء من هويتها حتى لا تذهب في "عالم فوضى النسيان". أصحاب المبادرة مولوا فكرتهم وحولوها من حلم إلى واقع على حسابهم الخاص بدءاً من استئجار المكان الذي تكلف في تصميمه على الطراز القديم بكل حذافيره أموالاً طائلة، وحين تباغتهم بالسؤال عن الجدوى من دفع تلك الأموال من جيوب ومدخرات أبنائهم؟ يباغتونك هم بعبارة: "كل يهون من أجل التاريخية، فهنا رسمنا معالم طفولتنا الجميلة، ونحن نحفظ لأبنائنا بذلك مستقبلهم".


جذب للأجانب

الأمر المثير في المكان أنه أصبح بين يوم وليلة منطقة جذب سياحي من الطراز الرفيع تتجاوز المرافق السياحية الأخرى في التاريخية، فـ"سجل الزيارات"، قصة أخرى من أركان المكان المكون من طابقين، فهنا تدهش وأنت تتابع كتابات أعجبت بالمكان بمختلف لغات العالم من العربية والإنجليزية والصينية والروسية والتشيكية والألمانية واليابانية.

كان أحد أعضاء المجموعة وهو طلال الخوتاني يستعرض عبر هاتفه الخاص، صوراً لمختلف الجنسيات التي وجدت في المكان بغيتها لمعرفة السردية التاريخية لكيفية مسار الحياة في جدة القديمة داخل السور، التي كانت تتشكل من 4 حارات هي اليمن والشام والمظلوم والبحر، والتي اكتسبت أسماءها حسب موقعها الجغرافي داخل المدينة أو شهرتها بالأحداث التي مرت بها.

الدبلوماسيون الأجانب المقيمون في المملكة وجدوا فرصتهم للتعرف على "أيام زمان جدة"، فالسفير الإسباني وحرمه اللذان كانا في مهمة رسمية إلى جدة، لم يجدا بدًا من الذهاب للمقر ليعرفا التفاصيل التاريخية التي ترويها الصور المتناثرة على جداريات المكان، جاء السفير ليقضي دقائق للتعرف على المكان ليأخذه الإعجاب إلى قضاء أكثر من 120 دقيقة بالتمام والكمال، تبعه في ذلك الإعجاب الملحقان الألمانيان الثقاقي والتجاري.





فكر متطور

هناك فكر سياحي متطور لدى أفراد المجموعة الذين يعطون هدايا للزائرين من أهمها البطاقات البريدية (بوست كارد)، التي تحمل صوراً لأقدم المعالم التاريخية التي تحتضنها المنطقة كمسجد المعمار (صاحب أربعة القرون)، ومسجد عكاش (الشاهد على قرنين من تاريخ جدة)، ومسجد الباشا (قصة ثلاثة قرون)، وهي من رؤية وتصميم وإخراج منصور صالح الزامل، وتوثيق تاريخي لمازن عبدالله السقاف، وتعتبر هذه البطاقات من أكثر الهدايا رغبة لدى السياح الأجانب.

لم يعد تصوير الهواة والمحترفين – خاصة هذه الأيام – مرتكزا على المكونات التاريخية التي تحتفظ بخمسمائة بيت أثري، بل أضحى مقعد "أيامنا الحلوة" مهوى أفئدتهم، فالمصور السعودي العالمي عيسى عنقاوي، وزوجه المصورة وداد صبان، قد أخذا نصيبهما من تصوير "جزئيات المكان".


صور بحقوق محفوظة

الصورة الموجودة عن جدة القديمة، لم تأت من فراغ أو عبر الإنترنت بل على العكس تحمل قصة عصامية في استجلابها، وهي المهمة الشاقة التي قام بها الزامل عبر شراء بعضها من أشهر المجلات العالمية المتخصصة في الصور كـ"ناشيونال جرافيك" و"لايف"، وهو الأمر الذي تطلب سفراً متواصلاً لجلبها عبر شراء حقوقها بمبالغ طائلة، رفض الفريق الإفصاح عن القيمة المالية.

لكن الأكثر غرابة في الموضوع قصة الصور التي تعود لأحد الرحالة البريطانيين قبل 150 عاماً تقريباً، الذي قدم على متن سفينة كانت تمر بجدة، ومكث فيها ساعات قليلة، ليخرج بإرث تاريخي من صور سور جدة (قبل الهدم)، والتي بذل فيها الزامل المهمة المستحيلة من ورثة المصور الذين وافقوا على منحهم الصور بـ "مقابل مادي".

وثائق كثيرة من أهمها وثيقة عبارة عن مقال مكتوب عن جدة يعود إلى 24 يوليو 1858 لصحيفة (THE ILLSTRATED)، اللندنية تتحدث فيه عن جدة القديمة، المدهش في الأمر أن أول من زار المكان- قبل افتتاحه الرسمي- هم طلبة قسم العمارة بجامعة ستنافورد الأميركية الذين أدهشو بتاريخ تصاميم البيوت الأثرية لجدة القديمة، وجاء الأمر بالصدفة عن طريق طالب مبتعث سعودي من نفس الجامعة، أحب أن يطلع الفريق الطلابي بأسلوب المعمار الهندسي للبيوت القديمة، ليفاجأ بالمكان أثناء التجهيزات الأولية له. فالمكان مثل لهم اختصارا زمنيا للتاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

المجموعة تحمل في طيات تفكيرها الاستراتيجي أهدافا تطويرية سيشهدها المكان في الفترات المقبلة، وتستطيع هنا أن تجلس برهة مع نفسك لتقلع من العصري إلى خلف التاريخ القديم لجدة وأنت تستمع إلى حكايات زمان بطريقة مبتكرة وجديدة.


.المقعد .. سيرة ذاتية موضوعية

تشير إحدى البروشورات التي قام الفريق بطباعتها إلى أن المقعد يقصد به "المجلس"، في مدن الحجاز، وبخاصة جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، ويقع غالباً في الدور الأرضي من البيت، وفي العادة يكون له روشان، ويطل على واجهة البيت الأمامية، ويحتوي البيت على أكثر من مقعد أحدها لكبار السن وآخر للشباب، ويكون المقعد في الغالب مرتفعاً عن مستوى الأرض، وقد يكون على صهريج ماء.

الإشارة الرمزية للمقعد هي: المكان الذي يرتاح فيه كبير العائلة، للتسامر فيه مع أبنائه وأقاربه وجيرانه وضيوفه، ويمكن القول كذلك إن عمد الحارات اتخذوا المقعد مكاناً لأداء أعمالهم، وعقد اجتماعاتهم مع أعيان وسكان الحي والشيوخ المتقدمين في العمر.