الانتباه، ربما، يكون كلمةَ المرور التي يلِجُ بها القارئ عوالم القصص القصيرة لمريم الساعدي، والبالغة نحو أربعين قصة في "نوارس تشي جيفارا" (دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام ـ 2012) حيث تقوم الكاتبة بالتقاطِ مفردةٍ من مجرى الحياة اليوميّة للساردة، ولا يعنيها أن تضع هذه المفردة في حكايةٍ ناميةٍ ومشهديّةٍ لها أطرافٌ وشهود. فهي تقطع مع البرّانيّة، والمظهر الخارجي وعلامته في حدّها الفيزيقي، وحتّى إنْ وقعَ القارئ على ما يشبه الرصد في بعض القصص إلا أنّه سُرعان ما يكتشف الذريعةَ التي تقودُ نحو المكامن؛ موطِنِ اشتغال الساعدي وبؤرة التركيز، إذْ تنظم خيطَ السّرد بتبديلاتٍ لونيّة، تعكِسُ جوهراً واحداً وشاغلاً أوّليّاً؛ يلتمُّ حولَ حالاتٍ داخليّة مغمورةٍ بالانفعال تستدرجُها بانتباهةِ التأمل والتمعّن، على نحوٍ تصعيديٍّ، يعوِّض غياب الحدث وإحداثيّاتِهِ الزمنيّة، وينفرج عن ذروة تنويريّة تلحمُ عنوان القصة بآخر سطر فيها؛ زفرتها أو صورتها "الشعاعيّة" الكاشفة عن عُمق الحالة ومدى ضراوتها.

تتردّد في المجموعة، بصيغةٍ تكراريّة موجعة، حالةُ الفجوة في كيان الساردة بتلك الثّغرة التي تقول غيابَ "الحياة"؛ غيابَ الشّريك أو غيابَ الحركة والتبدّل والتغيير. من هذا الشغور والخرق حتّى التجمّد عند منطقة الوجدان، والفراغ بشدقه النّهمة إلى درجة الملالة والسأم والغرق في اللاجدوى؛ تنجدلُ الحالة بشعار العزلة الذي يترحّل كطائرٍ غفتْ عنه المواسم وضلَّ طريقه إلى العش، وبالأثرِ الذي حزَّهُ التأمل فانكشفتْ صحراء وصلصلتْ أجراسُ جفافها.

في قصة "قلب رمادي، ص 91" نقع على حدثٍ خارجي، تعرف الكاتبة كيفَ تتدبّره وتسوقُه إلى ساقيّة الداخل بسلاسة. الساردة في محل للأدوات التجميلية، تبحث عن طلاء أظافر لونُهُ ورديٌّ تماماً خالصاً من شبهة الألوان الأخرى؛ تريد أن تصطبغَ أصابعُها بشرط "الحياة" تعلنها عبر (الوردي الفاتح، الزاهي، المشرق، الوردي الذي يبدو وكأني وُلدتُ في حديقة، وعشتُ في أرض النور، وكنتُ أضحكُ منذ لحظاتٍ مع عصافيرَ صغيرةٍ تغرّد فوقَ غصن شجرة). تعطيها البائعة الطلاء لتجرّبه، لكنها عندما تسدّد أصابعها في وجه الضوء من أجل اللون على أظافرها؛ تأخذُها الخيبةُ من عدم نقاء اللون الذي تعكّرهُ دكنةٌ لا تتوافق مع مطلبها؛ تطلُّعِها. تعيدُ تجريب اللون مع زجاجاتٍ أخرى ومن ماركاتٍ مختلفة، لكنّها لا تقعُ على لونها الوردي (في كلّ مرة تكون النتيجة واحدة: ورديّ مائل للسواد كأنّه رماديٌّ داكن). تدخل في جدالٍ مع البائعة، تصرُّ على بُغيتها، فيما البائعة تؤكّد ورديّة الطلاء بلونه الزاهي، وعلى سبيل الإثبات تصبغ أظافرها باللون نفسه. تراه الساردة "ورديّا تماما".. ليرتفعَ سؤالُ الحيرة ـ والحسرة أيضاً ـ (لماذا حين أضعُهُ أنا يبدو رماديّاً؟). تردّ البائعة أنّ الأمر يعودُ للعين لا لشيءٍ آخر. تلك العينُ التي قال عنها أحدهم، ربما ميرلو بونتي، إنها "نافذةُ الروح". هنا تنزلُ المعرفة بسهمِها الكاشف الذي يربط العنوان بآخر سطرٍ في القصة. تشتري الطلاء وتخرج به (أستعيد زجاجة اللون الصغيرة، أضمّها في يدي وأسير وأنا أضغطُ على قلبي).

الأمر نفسُهُ يتكرّر، وإنْ بكيفيّةٍ مغايرة، في قصص أخرى مثل "جلدة صغيرة يابسة حول إصبعي، ص 102" و"كوكو شانيل والسمكة الميّتة في صدري، ص 113" حيث المجازُ أو المعادِل الموضوعي؛ يلخّصُ حالةً ويوجِزُ وضْعاً عن حياةٍ مبتورة مسحوبة عن دفء التواصل، ومحجوزة ظمأى بلا إرواء، متروكة تنقضي إلى الفوات؛ متهدّلةً زائدة؛ ضربتْها رائحة الفساد. فلا مقصّ يطوي حكايةً ولا عطر يكافح استشراء زَنَخ.

* كاتب سعودي