كثير من أبناء جلدتنا يطلقون اسم أوبريت على أي احتفالية غنائية، ظنا منهم أن اختلاط الغناء بالاستعراض والإبهار مع عدد من النجوم هو فن الأوبريت! وتلك مشكلة كبيرة في عدم مفهوم المصطلح وتوظيفه، فلا يعقل أن يطلق مسمى أوبريت على مناسبة يطلق فيها النجوم حناجرهم مع بعض تقنيات على خشبة المسرح، وهذا أمر لا يُنقِص من قدرهم شيئا. أما وأن نرى أن فن الأوبريت يتوارى ولا يأخذ قدره من المعايير الفنية ويختلط المفهوم! فهذا أمر سوف يفرغ فيه النقاد - في البلاد الأخرى - محصول أحبارهم، فالتاريخ الفني لا يرحم، ولا يدع كبيرة أو صغيرة في فنون الشعوب إلا ويسجلها، ثم تعج به كليات الفنون وقاعات تدريبها. وعلوم الفنون الآن تقتات على ما دوَّنه مؤرخو الفن في العالم عبر آلاف العصور، مع رصد وتحليل لكل فن في كل شعب من خلال زمنه وتاريخه!

فما هو إذا فن الأوبريت؟

"الأوبريت هو مسرحية غنائية قصيرة، وهي مسرحية موسيقية خفيفة تشتمل عادة على حبكة عاطفية نهايتها دائما سعيدة، كما تحتوي على مواقف من الحوار الملفوظ والرقص التعبيري أو الاستعراضي. وهناك أوبريتات عالمية دوّنها تاريخ الفن، الذي لا يدع صغيرة أو كبيرة إلا ويذكرها إما بالاستهجان أو وضعها في لوحة الشرف العالمي مثل أوبريتات ألفها الموسيقار النمساوي والعالمي يوهان شتراوس عام (1825- 1899) وتلك التي ألفها فرانس رينهارت المجري عام (1870- 1948) وله أيضا أوبريت الأرملة الطروب عام (1905) التي عرّبها الشاعر المصري عبدالرحمن الخميسي من سنوات مضت".

إذا الأوبريت هو فن مسرحي بكل أركانه من حيث المكان والشخصيات والزمان والحدث، ثم إنه لا يمكن أن يتخلى عن أحد أركان الفن المسرحي وهو الحبكة، بكل ما لها من فعل درامي متصاعد ونقاط لدفع الأحداث وشبكة علاقات بين الشخصيات تعمل على تنامي الصراع من خلال تعارض الرغبات، وبالتالي يجتمع فن الأوبريت مع المسرحية في كل ما لها من أركان أساسية، إلا أنه يتفرد لذاته بمرور كل هذه الأحداث من خلال موسيقى غنائية، ويمكن أن تكون استعراضية مع مقاطع حوارية في الوقت ذاته، ثم يختلف الأوبريت عن الأوبرا، بأن فن الأوبرا هو كل ما كان للمسرحية من أركان وأسس يمر في طابع غنائي من أوله حتى آخره، فتعرف اصطلاحيا بأنها "المسرحية التي يقوم فيها الغناء بدور الحوار الملحن وغالبا ما يكون موضوعها مأساة، مثل أوبرا كارمن وأوبرا عايدة". وعادة ما يكون الحدث فيها كبيرا ومأساتها جليلة. وفي هذه الحالة يتفرد الأوبريت عن الأولى والأخيرة بأن يمر بمواقف حوارية ملفوظة وأخرى غنائية وفعلها الدرامي يأتي قصيرا.

ونحن في بلادنا ـ والحمد لله ـ لدينا زخم واضح من الرقصات الشعبية مثل الزامل والعرضة والزحفة في بلاد قحطان، والشامية وغير ذلك من الفنون الشعبية التي يمكن توظيفها في فن أوبريت ناجح وخاص له مذاق ورائحة تخصنا نحن، إلا أنه لا يمكن أن تكون أوبريتات بمجرد مصاحبة غناء بعض النجوم المشهورين لبعض الرقصات، ما لم تمتزج بتلك الحبكة المسرحية ذات البناء الدرامي، وهو ما لم يفهم كنهه جُل القائمين على هذه الأعمال، فحين أنتجت دول كبيرة أوبريتات عالمية مزجتها بفنونهم الخاصة بهم، مثل رقصات "البولكا" ورقصة "التشارداش" المجرية والرقصة البولندية "مازوكا" وغيرها من الرقصات الشعبية ذات الطابع الخاص ذات القابلية المحببة لدى الجماهير؛ لأن الرقصات الشعبية هي الأكثر انتشارا وجاذبية في فن الأوبريت من حيث أنها تضفي عليه لونا خاصا بذاته، ففي علوم التلقي دائما الموروث الشعبي هو ما يذهب إلى الوجدان مباشرة عن طريق "التسرب الانفعالي والانزلاق الوجداني" مما ينتج عنه ما يسمى "المتعة" لأنها تجتاز منطقة الكَدَر إلى محيط اللذة.

فن الأوبريت من أعقد الفنون المسرحية وأصعبها على الإطلاق، بالرغم من بساطته في صورته النهائية، إلا أنه يحتاج إلى فهم وعلم وتقنية وصنعة؛ كي يحدث ما يسمى بالتسرب الانفعالي. فلم ينجح في هذا الفن غير فنانين مسرحيين معدودين في الوطن العربي على مدار تاريخ المسرح العربي، ولعل من أبرز هؤلاء الشاعر الكبير بيرم التونسي صاحب أوبريت "شهر زاد" من ألحان فنان الشعب سيد درويس، وأوبريت "العشرة الطيبة" التي كتبها الكاتب المسرحي محمد تيمور وكتب أشعارها الشاعر الكبير بيرم التونسي ولحنها سيد درويش، وكذلك الشاعر الكبير صلاح جاهين، مؤلف أوبريت الليلة الكبيرة من إخراج الفنان الراحل صلاح السقا. وعلية فإن فن الأوبريت يحتاج إلى كاتب مسرحي درامي متمكن، لأنه بطبيعة الحال - أي فن الأوبريت- فن مسرحي في نهاية المطاف، يعتمد على عمق الشخصيات وأبعادها الاجتماعية والنفسية، كما أن الملحن يجب أن يعطي لكل شخصية لحنها الخاص المتماس مع تكوين الشخصية ذاتها؛ لأن مفردات اللحن هي مفردات الشخصية.

ولذلك يجب أن ننوه عن مدى أهمية هذا الفن، كما يجب أن ننوه أن لدينا جميع المفردات التي تنتج لنا أوبريتات خاصة بنا ذات طابع خاص بنا في شكل مسرحي ينعش المسرح الذي يبحث عن طريق!

ومع ذلك نجد أن الساحة العربية بشكل عام، والسعودية بشكل خاص تطلق على كل احتفال غنائي في أي مناسبة اسم أوبريت! لمجرد أن به مجموعة مطربين ينشدون أغانيهم بين مجموعة رقصات، وهذا لا يليق بما يسمى فن الأوبريت ومع قيمة المسرح، كونه واجهة ثقافية تعكس جوانب المجتمع بكل ما له وما عليه. فمن فضلكم لا تظلموا الأوبريت كما ظلمتم المسرح.