"في الماضي، كان كافيا للأمة أن ترعى نفسها فقط، أما اليوم فإن هذا لم يعد كافيا"، كانت هذه كلمات الدبلوماسي الأوروبي البارز روبرت كوبر من كتابه الشهير: "كسر الأمم، النظام والفوضى في القرن الواحد والعشرين"، الصادر عام 2003 من دار أتلنتيك للنشر. جملة كوبر هذه تعد أحد القواعد التي يبنى عليها التعاون الصحي الدولي منذ 160 عاما لمكافحة الأمراض التي لا تعترف بالحدود الجغرافية، والذي تطور ليطلق عليه في الوقت الحالي مسمى "الدبلوماسية الصحية العالمية".
الدبلوماسية الصحية العالمية عبارة عن نظام يحوي شطرين: التنظيمي والاتصالي التفاوضي وبشطريه يقوم بتشكيل بيئة السياسات العالمية في مجال الصحة ومحدداتها. كانت منظمة الصحة العالمية هي الميدان الرئيس وشبه الأوحد لنشاطات الدبلوماسية الصحية العالمية إلا أن هذا تغير وتوسع وأصبح دبلوماسيو الصحة العالمية جزءا لا يتجزأ من مجموعة العشرين ومجموعة الدول الصناعية الثماني وبريكس والاتحاد الأوروبي، ومؤخرا افتتحت منظمة التعاون الإسلامي وحدة للشؤون الصحية. ولذلك فإن العالم لم يتفاجأ بثناء المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية على الدبلوماسية الصحية العالمية وتأكيدها على دورها في كلمتها الافتتاحية للدورة الـ132 لاجتماع المجلس التنفيذي للمنظمة مطلع العام الحالي. ولأهمية الدبلوماسية الصحية العالمية فقد أطلق معهد الدراسات العليا في جنيف العام الماضي برنامجا تدريبيا في الدبلوماسية الصحية العالمية، وهو الذي اعتبرته منظمة الصحة العالمية نقطة تحول جذرية لبناء الكوادر المؤهلة. الجدير بالذكر أن هذا البرنامج الذي أكمل عامه الأول قد حقق انتشارا عالميا حتى أن دولا كالصين وتركيا وإندونيسيا تقوم بدورات تدريبية في الدبلوماسية الصحية العالمية لمنسوبيها بالتعاون مع المعهد ومنظمة الصحة العالمية.
وفي أثناء هذا الحراك العالمي لبناء الكوادر في الدبلوماسية الصحية العالمية، أتى مقترح الأمير خالد الفيصل، بإنشاء جامعة للحج ليتناغم مع هذا الحراك خاصة بأن الله أكرمنا بوجود الحرمين كأكثر المراكز العالمية حيوية وتنوعا. فبينما يقوم معهد الدراسات العليا في جنيف بمحاولة استقطاب القيادات الدبلوماسية والصحية لتدريبها على الدبلوماسية الصحية العالمية، نحن نستقبلها على مدار العام في وفود العمرة وسنويا في وفود الحج في امتياز لا تملكه الدول الأخرى وفرصة لريادة عالمية مستدامة في الدبلوماسية الصحية العالمية.
إنشاء معهد للدبلوماسية الصحية العالمية في المملكة للوفود العالمية التي تقوم بزيارة المملكة للعمرة والحج، هو تأكيد لدور المملكة المتأصل في بناء قدرات الدول الأعضاء ودعم عملها الجماعي للحصول على أفضل النتائج الصحية والدبلوماسية محليا وإقليميا وعالميا. هذا المعهد سيكون أحد أكبر المنتديات العالمية لوضع السياسات الصحية الإقليمية والعالمية بمنهجية استباقية لفهم المتغيرات الحالية والمستقبلية للدول، والتي قد تؤثر على الوضع الصحي العالمي.
لدى المملكة فرصة لأن تكون المرجع البحثي والتدريبي والتأهيلي في الدبلوماسية الصحية العالمية خاصة في ضوء التحولات السياسية والتغيرات في أنماط الأمراض في عالم متعدد الأقطاب. لدى معهد الدبلوماسية الصحية العالمية المستقبلي الفرصة لقيادة العالم الإسلامي في رحلة تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية لما بعد عام 2015 كتقليل معدلات وفيات الأطفال، وتعزيز صحة الأم، ومكافحة الإيدز والملاريا وغيرهما، والاستدامة البيئية ولديه الفرصة لتعميق الفهم المحلي والإقليمي والعالمي لقضايا حيوية كالعولمة والصحة، والاقتصاد والصحة، والقانون الصحي الدولي والحوكمة الصحية العالمية.
توصي منظمة الصحة العالمية بضرورة بناء القدرة البشرية للدبلوماسية الصحية العالمية أكثر من أي وقت مضى، فالمستشارون الموقتون لا يمكنهم تلبية الطلب المتزايد على مختصي الدبلوماسية الصحية حول العالم، ولذلك فإن أحد أهم الأولويات على أجندة الدبلوماسية الصحية العالمية هي بناء القدرات المتخصصة، وهو ما يتسق مع الفرصة الذهبية لإنشاء معهد للدبلوماسية الصحية العالمية للمساهمة في هذا الدور محلياًّ وإقليميا ودوليا.
ذكر الأمير خالد الفيصل، في تصريحه أن معهد خادم الحرمين الشريفين ومعهد الحرم المكي يشكلان نواة حقيقية لإنشاء جامعة متخصصة في مجالي الحج والعمرة، ونحن نساند مبادرة سموه بالمطالبة بإنشاء العمود الفقري لهذه الجامعة المقترحة؛ معهد السياسة الصحية الدولية.
هذا المعهد سيخلق فرصا وظيفية وبحثية وتعليمية وتأهيلية لبنات وأبناء الوطن، والذين بدورهم مع نظرائهم في العالم الإسلامي والدولي سيكونون منارة وشاهدا على شرف خدمة الحرمين، وسيكونون آية أخرى على منفعة شعيرة الحج العظيمة عاما بعد عام.