ما هي نظرتنا إلى هذا الإنسان؟ بل ما هو مفهومنا للإنسانية؟ أظن أن أول المبادئ التي يجب أن تقر عند طرح مثل هذه التساؤلات هو هل اعترف أنا بوجود الإنسان؟ لأن الاعتراف بالوجود يستتبع الإقرار بوجود كيان مستقل له آراؤه وعواطفه وتطلعاته، وإذا تم هذا الاعتراف وهذا الإقرار ساقك ذلك تلقائياً لأن تحترم الإنسان وتقدره – أياً كان- بل ويمضي بك بعيداً في أن يطبع سلوكك بأدب جم يستغرب الكثيرون منبعه رغم وضوح الأمر وبساطته!

تريد أن تجرب! في محيطك اليومي إذا قابلت شخصاً بسيطاً أقل منك سناً أو مكانة إدارية أو علمية (هذه المقاييس ظاهرية إذ قد يكون أحد هؤلاء أغنى منك نفساً وأكثر عطاءً وبذلاً) اسأله عن أحواله! أو ابتسم في وجه عامل بسيط آخر (وما أقل المبتسمين هذه الأيام) وانظر إلى نتيجة ذلك! ما الذي حدث هنا؟ إنه اعتراف بوجود كيان إنساني، وإقرار بحقه أن يشعر بإنسانيته!

وكلما ازداد شعورك بإنسانية الإنسان وتجذر هذا المعنى في داخلك، ازداد تتبعك ولحظك وانتباهك لخلجات شعور الناس ونبض أحاسيسهم الدقيق، وأصبحت ذا دراية بمسارب النفس المتشعبة وبأودية الوجدان الطويلة، وهذا سيكسبك بلا شك رهافة في الحس ورقة في الكلمات ووعياً بأثر ما تقول على نفسية سامعيك!

هناك دعوة مفتوحة دائماً للترقي في مدارج الكمال الإنساني، والسمو بالمشاعر، والتأكيد على احترام وتقدير إنسانية الإنسان، نجدها دائماً عند التدبر الدقيق الواعي المعاصر لحكم وعبر وأسرار ولطائف آيات كتاب الله الكريم.

عندما دخل أهل يوسف-عليه السلام- وهو في عزه وسيادته وآوى إليه أبويه ورفعهما على العرش وخروا له سجداً (وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم)، انظر إلى قمة الأدب والذوق ومراعاة المشاعر، لم يذكر نبي الله يوسف –عليه السلام- أي إشارة إلى الجب الذي تركه فيه إخوانه الذين أعماهم الحقد والبغض الدفين وما أرادوا إلا قتله لولا أوسطهم الذين ظلت فيه بقية من حكمة وخشية (لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة)، وأكثر من ذلك أنه لم ينسب إليهم أي جرم أو قبح إذ قال لهم قبلها (لا تثريب عليكم اليوم) فلا عتب ولا تأنيب بل لا ذكر مطلقاً لأي شيء بدر منهم وإنما الموضوع برمته (نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي) أشرك نفسه- وهو البريء المنزه بل هو ضحية غدرهم وكيدهم- معهم في التعرض لنزغ الشيطان وإيقاعه بالناس! كل ذلك لأنه لا يريد أن يجرح مشاعرهم ولو بكلمة واحدة ولا يريد أن يمس خاطرهم إلا بكل جميل رقيق لطيف! ولا يبرز هنا تألق الإنسانية وعظمة النفس وكمال الأدب وحسب بل هو أيضاً النظر الخبير العميق الذي يتطلع إلى السلام النفسي والرقي الاجتماعي، إنها الحضارة!

وليظهر لنا قيمة الأثر النفسي في الحروف والكلمات لنتأمل رد نبي الله يعقوب-عليه السلام- لبنيه بعد فعلتهم الشنيعة التي استمرت آثارها سنين طوالا (قالوا ياأبانا استغفر لنا إنا كنا خاطئين)، رد عليهم:(قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم)، (سوف) وليس سأستغفر لكم ربي، هناك تأخير وتأجيل في رسالة نفسية قصيرة لكنها مهمة، تمثلت في كلمة لكنها ترمي إلى معنى عميق، وما ذلك – والله أعلم- إلا تنبيه لهم إلى عظم ما أقدموا عليه، وتحفيز لهم على تأكيد صدق هذه الرغبة في المغفرة.

نخلص إلى أن كلماتنا وأفعالنا ما هي إلا ترجمة مباشرة بل وفورية لما يعتمل بداخلنا من أفكار وأحاسيس ومبادئ وتصورات، فابحث في داخلك عن معنى للإنسان، هل له اعتبار ووجود وكيان عندك، فإذا كان كذلك فابشر بكل خير، لأنك عندها وعندها فقط سيكون لك قلب إنسان! قلب فيه أول ما فيه حب للخير للحق للجمال، قلب يبغض الكبر والغرور والعجب بالنفس، قلب لا يرى المفاضلة بين البشر على أساس اللون والعرق والجاه، قلب يتحاشى الظلم بل ويفر منه فراراً لأنه اعتداء صارخ على أخيه الإنسان، قلب فيه نور فياض في حروفه وكلماته ونظراته، لأنها لا تصدر إلا وهي تقطر حباً واحتراما وكرامة.

هل في هذا الكلام جنوح مثالي أو إيغال في بحر من الخيال؟ أجيب: نعم كما يتصور الكثير من الناس! لماذا؟ لأننا نصدر في حكمنا من واقعنا أو أكثر تحديداً من واقع الإنسان عندنا. ولن أصف واقع الإنسان عندنا بأكثر من أن أقول لك لتعرفه قياساً أن انظر إلى شوارعنا! ولن أزيد في بكائية وصفية لسراديب أرضية غائرة لا نور فيها دخل فيها الإنسان عندنا ولم يخرج بعد، إلا أن عزائي هو أن نحذو حذو نبي الله يوسف الإنسان –عليه السلام- رافعين راية الإحسان، الذي تخلق به (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين)، هذا الإحسان الذي لم يتخل عنه مهما كانت الظروف والأحوال، بل إنه ما عرف في السجن من صاحبيه إلا به (نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)، وما مكنه الله إلا به (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)، ولا تم الرجاء في حلمه وعفوه وكرمه من قبل إخوانه إلا به (فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين).

إن معركة الإنسان عندنا معركة عويصة معقدة! إنها معركة كرامة فيها بحث عن وجود وإعادة اعتبار! إنها معركة آلياتها كثيرة معقدة وقد زلت أقدام أناس فيها فما زادوا الوضع إلا تعقيداً وسوءاً! إنها معركة تحتاج إلى أفكار نيرة جريئة وعلم متقد معاصر وكلمة واعية حرة! ولا أرى راية ترفع فيها أوقع من راية الإحسان! وكما قال المنفلوطي:"لا أستطيع أن أتصور أن الإنسانَ إنسانٌ حتى أراه محسناً" وهي معركة تتطلب تجييش آلاف المحسنين الذين يؤمنون بالإنسان ويعترفون بوجوده وكيانه، فإذا تكلموا بكلمة فكروا في مشاعر من سيتلقاها قبل أن يقولوها، وإذا أقدموا على فعل كان الأدب عنوانه والإتقان شعاره، يفوح منهم عطر صفاء المشاعر ورقتها، ويشع منهم نور الحب والأمل والعطاء بلا حدود، ولا عليهم من بأس في كل هذا لأنه وكما قال يوسف –عليه السلام-: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).