كنت في طريقي إلى العمل حين صادفتُ على أحد الطرق رجلا مسنّا وحيدا، يقف تحت شمس الصباح، هندامه مرتب، وفي ملامحه سماحة، يشير بيده طلبا لتوقف تاكسي، فلاحظتُ عدم توقف السيارات له، وطلبت من سائقي التوقف، فعبرت به سيارة أجرة، وشعرتُ بالطمأنينة أنها ستقلّه، لكن بعد برهة تركته تحت الشمس ولم تقله. لا أعرف، شعرتُ حينها بالخوف عليه من السيارات التي تمر مسرعة بجواره دون أن تكترث لحاله، فطلبتُ من سائقي أن يعود إلى الوراء حيث يقف وسألته: عمي أين تريد أن تذهب؟ فأجاب بلسان ثقيلة كلمات لم أفهمها، جعلتني أعرف أنه قد تعرض لجلطة ما سلبته القدرة على النطق السليم، وعرفتُ لماذا كانت سيارات الأجرة تتركه، وبعد محاولات أردد عليه أسماء أحياء في جدة، وصلنا أخيرا للحي الذي يريد الذهاب إليه، فأخذته في سيارتي؛ كي أوقف له سيارة أجرة تقله، والحمد لله وجدتُ شابا من أبناء البلد، على ملامحه الخير لديه سيارة "تاكسي"، فأخبرته بحالة المسن، واعتذر عن أخذه في البداية؛ خوفا من التأخر على دوامه، حتى رقّ له قلبه وأخذه معه في طريقه، وأتمنى الآن من قلبي أن يكون هذا المسن قد وصل إلى يد أمينة تعطف عليه وترحم شيخوخته.

لماذا أسرد هذه القصة! لأني شعرتُ بالحزن الكبير على حال مشاعرنا التي أصابها التبلد، كانت السيارات تمرّ بجواره دون أن يفكر سائقوها أنه قد يخطو خطوة للأمام فتصدمه إحداها، فيما سيارات التاكسي تقف وتعرف عدم تمكنه من الكلام فتتركه تحت الشمس دون اكتراث، فما المشكلة لو أقله أحدهم وذهب به لأقرب مركز شرطة أو مرور، هذا أقل شيء يمكن عمله لمساعدته، وأستغرب قسوة قلوب أولاده وأقربائه كيف يتركونه وحيدا في الشوارع، وإن لم يكن لديه أحد، فأين دور مؤسسات الدولة خاصة "وزارة الشؤون الاجتماعية" التي تنام في العسل ومسؤوليها، ما دورها في وضع دور محترمة للمسنين، تضمن لهم كرامة العيش والعلاج والرعاية التي يستحقونها؟ أيعقل في مدينة جدة التي يقطنها ما يقارب أربعة ملايين لا توجد بها دار للمسنين؟!

أتذكر جيدا أني كنتُ مرة في مدينة "فلوريدا" الأميركية، وزرتُ مدينة ملاهي ترفيهية للأطفال والأسر، فصادفتُ مجموعة من المسنين يرتدون لباسا مبهجا، ومعهم بلونات، وتجاوزت أعمارهم السبعين، ومعظمهم مقعدون على كراسي متحركة، وبرفقتهم موظفو الدار، أحضروهم كي يرفهوا عنهم، وعرفتُ أن الدار تنظم أسبوعيا رحلات ترفيهية لهم، لماذا؟ لأنهم ينظرون إليهم كقيمة إنسانية من حقها أن تستمتع حتى آخر نفس، وإن لم تُدرك ما حولها، وليس كما ينظر إليهم بعضهم في هذا المجتمع كهامش ينتظر الموت والتخلص منهم!

بصراحة، نحن نعاني ليس فقط من أبناء عاقين لآبائهم وأمهاتهم، بل نعاني من مجتمع ومؤسسات عاقة تجاه كبار السن، والمجتمع الذي لا يهتم بعواجيزه، مجتمع يعيش جاهليته الأولى! فارحموا كبار السن يرحمكم الله! وفي نهاية الأمر، كل منا ـ إن أمد الله في عمره ـ سوف يتذوق كأس أرذل العمر، وكما تدين تُدان!