رحيل غازي القصيبي المبكّر والمفاجئ، يعيد إلى الأذهان مرة أخرى سرَّ الظاهرة في الإداري المثقّف، وهو السرُّ الذي تكلمنا عنه سابقاً، وقلنا إنه سرُّ الثقافة العامّة، والإبداع الثقافي، الذي يؤدّي إلى الإبداع الإداري.

ظاهرة غازي القصيبي

لماذا يعتبر غازي القصيبي ظاهرة في الإدارة العربية، وفي الثقافة العربية في الوقت نفسه؟

في ظنّي وتقديري؛ أنّ مردَّ هذه الظاهرة، يعود إلى النجاح والعطاء المتدفق الذي أعطاه القصيبي في الإدارة والثقافة معاً، وتوفيقه بين الأداء الإداري المتميز، والعطاء الثقافي المتدفق.

لقد مارس كثير من المثقفين في العالم العربي المناصب الإدارية، فكان أنْ غلبت المناصب الإدارية الإنتاج الثقافي، في كثير من الأحيان. وشاهدنا أن الإنتاج الثقافي لمعظم هؤلاء قد تقلَّص كثيراً، وفقدنا بذلك كثيراً من عطاء المثقفين نتيجة انغماسهم وانصرافهم إلى الأعمال الإداريّة. وكم قيل أن الوظيفة والعمل الروتيني قد قتلا الموهبة، وقضيا على العطاء الثقافي. ولكن الراحل القصيبي- كما كان آخرون قلائل - كان هو الاستثناء الظاهرة في هذا المجال. فرغم توليه عدة مناصب إدارية حساسة، تستدعي منه جهداً إدارياً كبيراً، ورغم تصديه لقضايا معقدة وشائكة، كالتنمية، والسعودة، والمواطنة، ونجاحه النسبي في هذا التصدي، إلا أن إنتاجه الثقافي لم يتأثر سلبياً، بل تدفق أكثر فأكثر. ومن هنا كان القصيبي هو الظاهرة الجديرة بالتأمل والدرس.

بين الإدارة والثقافة

يمتلئ العالم العربي، بأمثلة المثقفين الذين انطفأ إبداعهم أو كاد أن ينطفئ في كراسي الإدارة. ومع هؤلاء لم نكن فرحين، بقدر فرحنا وارتياحنا وترحيبنا بالإداريين الذين تابعوا النتاج الثقافي، ومزجوا بين الإدارة والثقافة مزجاً إبداعياً. لقد سبق وقلنا، إن النجاح في الإدارة في العصر الحديث، لم يعد يترتب على نوعية المناصب، والأهمية الاجتماعية والسياسية لصاحب المنصب، بقدر ما أصبحت الإدارة فناً، وثقافة، وعلماً. وقلنا، إن علماء الإدارة في العصر الحديث يزيدون على كون الإدارة فناً وثقافة وعلماً، فيؤكدون على أنها كذلك حضارة قائمة بذاتها، لها كل ما للحضارة من أدوات ونتائج. ويؤكد فيلسوف الإدارة الأمريكي الأشهر في العصر الحديث بيتر دريكر (Peter Drucker )(1919- 2005) في كتابه "فن الإدارة في القرن الحادي والعشرين"، على أن "الإدارة الحديثة ليست مجرد علم واختصاص، بل هي حضارة لها قيمها، ومعتقداتها، ومعداتها، ولغتها الخاصة".

طه حسين بين الوزارة والثقافة

لاحظ فيلسوف الإدارة الحديثة بيتر دريكر، أن معظم الإداريين الذين جاءوا من خلفيات ثقافية، نجحوا في مهماتهم الإدارية نجاحاً ملحوظاً. ويحضرنا في هذا المقام في العصر العربي الحديث، ما قام به طه حسين، عندما تم تعيينه وزيراً للتعليم (1950-1952). فقام بإصلاحات في التعليم، لم يقم بها مَنْ سبقوه، أو مَنْ جاءوا بعده. ويكفي طه حسين الوزير المثقف، أنّه رسّخ مبدأ التعليم المجّاني والإلزامي، ونادى بضرورة التعليم كالماء والهواء. وهو حقٌّ وواجب، على كل مصري، ولكل مصري. وكان الفضل لطه حسين الوزير المثقف، أنه انتقد الطرق التقليدية في تدريس الأدب العربي، وعمل على التغلُّب على ضعف مستوى التدريس في المدارس الحكومية. كما دعا إلى إعداد المعلمين الذين يقومون بتدريس اللغة العربية والأدب، ليكونوا على قدر كبير من التمكّن والثقافة، بالإضافة لاتباع المنهج التجديدي، وعدم التمسك بالشكل التقليدي في التدريس.

ونجيب محفوظ مثال آخر

والمثال الآخر من مصر أيضاً، للإداري الناجح في الإدارة والثقافة معاً، كان نجيب محفوظ، الذي قضى إدارياً مواظباً طيلة 33 سنة (1938- 1971)، تسلّم خلالها عدة مناصب إداريّة. والمدهش الفريد، أنه أصبح رائد الرواية العربية المعاصرة، خلال هذه المدة، وخلال عمله في مناصب حكومية مختلفة. وقد أبدع نجيب محفوظ في الإدارة كما أبدع في الثقافة، التي نال عليها جائزة نوبل عام 1988. وهو ما يؤكد لنا ارتباط النجاح الإداري بالنجاح الثقافي. وهذا بحاجة إلى دراسة حفر وتفكيك لهذه الظواهر من قبل علماء النفس والاجتماع والإدارة وغيرها من العلوم المناطة بمثل هذه الحالات. فمن المعروف مثلاً عن نجيب محفوظ المواظبة والانضباط في العمل الإداري والإنتاج الثقافي معاً. وكان يُذاع عنه أنه يغادر منزله يومياً في ساعة محددة، ويصل عمله في وقت معلوم. ويكتب في ساعة معينة من النهار، وينام في ساعة لا يتعداها. وهناك أشهر معينة في السنة لا يكتب فيها.. إلخ. وهذا الانضباط يعتبر ظاهرة فريدة في الحياة العربية، التي تتسم بالفوضى، وعدم الانضباط.

القصيبي المثال السعودي الأبرز

وكما كان نجيب محفوظ على درجة كبيرة من الانضباط والتنظيم في حياته الإدارية والثقافية، فكذلك كان غازي القصيبي، الذي يجمعه بنجيب محفوظ قواسم مشتركة كثيرة، منها أن كليهما كانا موظفين حكوميين منضبطين ومنظمين. ومنها، أن كليهما أنتجا كماً كبيراً من الثقافة، رغم وطأة العمل الإداري، وصعوبته في كثير من الأحيان.

ومنها، أن كليهما كانا ذوي شهرة ونجومية في العمل الإداري والإنتاج الثقافي. ومن عمل مع غازي القصيبي في تقلّبه في عدة مناصب إدارية: وزيراً، وسفيراً، ومديراً عاماً لمؤسسة السكة الحديدية، وفي عدة مناصب تعليمية، أستاذاً جامعياً، يعلمُ علم اليقين كيف كان القصيبي يعمل في إدارته بكل مهارة، ومواظبة، وإخلاص. كما كان في الوقت نفسه يكتب الرواية والمقالة وقصيدة الشعر، ويشترك في الندوات الثقافية، ويساهم في بناء الثقافة العربية عامة.

إن تميُّز القصيبي بين معاصريه في السعودية والخليج العربي، أنه امتلك شجاعة التنوير والحداثة، وحمل مشعليهما لإضاءة وهدي الكثير من سراديبنا المظلمة والتائهة. والنتاج الفكري/السياسي التنويري لدى القصيبي جانب مهم، فلا بُدَّ من الاهتمام به من قبل الدارسين، حيث إنه أسهم في دفع عجلة التنوير والتقدّم في السعودية والخليج العربي والعالم العربي عامة، من خلال عدة كتب، وروايات، ودواوين شعرية شجاعة.