عندما يتشطر المجتمع بين الآراء المتباينة فإن هذا يخلق مزيداً من الشقاق ويرشح كل حدث جديد لفتنة جديدة، ولو أخذنا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثالاً لاتضح المقال، فحين يتشكل المجتمع على رأيين وتضعف أو تغيب الرؤى البينية يكون ذلك مكمن المشكلة.
في كل حدث تكون فيه "الهيئة" طرف يبرز الرأيان المختلفان، رأي يصم أذنه عن كل انتقاد يوجه إلى جهاز الحسبة، بل يتطرف ليجعل الناس على محكات خطيرة مثل الحكم بمحادة الشريعة أو النفاق بمجرد أن تعترض على تصرف أو تدعو لتغيير في النظم أو منهجية التعامل مع المجتمع، ويرى في ذلك سبيلاً لحرب الشعيرة العظيمة، ثم يستصحب كل مخزوناته من الألفاظ المنكرة للدفاع عن النهي عن المنكر.
وفي مقابل ذلك، هناك من يتطرف في الجهة المقابلة ليجعل كل خطأ أو حدث يقع من الهيئة وأفرادها سبيلاً لحلها ومحاولة إقناع الناس بعدم جدوى هذا الجهاز ثم تأتي سيول المقالات في هذا الاتجاه فيغيب العدل والإنصاف في وسط ضجيج المختلفين منهجياً وأيدلوجياً والمجتمع وقضاياه هو ميدان هذا الصراع الكبير والمضر.
و"الهيئة" جهاز حكومي مثله مثل بقية أجهزة الدولة، وضع لمهمة محددة، وله نظام قابل للتطوير والتغيير، وواضعه ليس نبياً لا يخطئ ولا يزل، ونقده بالعدل والإنصاف والعلم والهدوء حق مشاع، وخاصة حين يكون عمله في تماس مع أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً في أسواقهم وفي أعمالهم وفي قضايا تتعلق بديانتهم وأخلاقهم، وهذه قضية لا يمكن ضبطها لاختلاف مستويات الأعضاء من حيث الشدة والليونة والوعي والعلم، ففيهم النزق الحاد، وفيهم المتشدد في غير موضع الشدة، وفيهم المتسامح السهل، وتنوع القضايا أمامهم كثيرة وكبيرة، ولا يمكن أن يضبط هذا إلا بنظم ظاهرة تفرق بين ما هو منكر وما هو غير منكر - وقد سبق أن كتبت موضوعاً بعنوان: "ما هو المنكر؟"، وبين التعامل مع المعصية أو الفعل اللازم والفعل المتعدي وتشديد الشريعة في الثاني دون الأول، وبيان الإجراءات النظامية التي تفرق بين عمل المحتسب وغيره من الجهات القريبة من عمله، كالشرط ومكافحة المخدرات وغيرها.
ومع الإيمان التام بضرورة التطوير والنقد والتصحيح إلا أن وجود مثل هذا الجهاز مهم وخاصة في مجتمع مثل السعودية، التي لها ميزة خاصة حيث يحظى القطاع بقبول اجتماعي يرونه ضرورياً لحفظ التوازن وحماية المجتمع، وعليه فالدعوة لإلغائه بعيدة والإصرار على ذلك تطرف، وجهود الجهاز مشكورة في قضايا كثيرة في الأسواق والمناسبات إذا سلم من متطرفي الأفكار والداخلين فيه من غير منسوبيه والذين يسيئون إليه كثيراً.
كما أن محاولة البعض إضفاء القدسية على أفراده، والحماسة للهجوم على منتقديهم بالحق والباطل خطأ ظاهر، إذ لا بد من التفريق بين الموقف من الشعيرة بذاتها وبين الموقف من فاعليها الذين يعتريهم النقض والخطأ وحظوظ النفس وقلة الفقه والعجلة والتي توقع الجهاز ومسؤوليه في حرج كبير عند كل حدث يتحول لرأي عام.