لنتفق في البداية أن الإنسان مهما بلغ من العلم فهو محدود، لأن الله قال بأنه لم يؤته من العلم إلا قليلا، ومع القناعة التامة بأن الحقيقة المطلقة لا يعلم حقيقتها إلا الله في علاه، إلا أنه عز وجل قال في أول التنزيل (اقرأ)، وذلك في أمر صريح بأن التفكر والاطلاع والقراءة والعلم هي من أهم ما يميز الإنسان عن باقي مخلوقات الكون الفسيح.

الشيء الذي يحزنني، كما يحزن الكثير من المهتمين في شأن تطوير الجانب الفكري والحضاري في المجتمع، هو كيف أصبح الحط من الإمكانات الإنسانية التي وهبها الله له والتقليل من شأنها واعتبارها خروجا عن قدره وتمردا على القناعة باعتبارها كنزا لا يفنى، أمرا ممنهجا، وكيف أصبح التعاطي مع أي محاولة للخروج عن المحيط المريح والتعاطي بشيء من التميز مع الواقع والأفكار الرتيبة التي استفحلت رجعيتها في عقول البشر، تمردا على الدين والعرف، وكأن الدين والعرف يدعوان للركون والخضوع للواقع.

الواقع يقول لنا: إن هناك نوعين من الأمم؛ الأول: هو القادر على تجاوز الصعاب والتحديات الزمانية والمكانية، ولديه إيمان قوي بإمكاناته العقلية والبشرية وحقه في التطور والمشاركة في التأثير الإنساني ولعب دور محوري في حركة الحضارات والتاريخ، وهناك أمم ترى أن الالتزام بواقع الحال هو السبيل للبقاء وأن الابتعاد عن أي تحفيز فكري أو بشري أو حضاري هو خير سبيل للابتعاد عن الضلال والانحطاط الأخلاقي والاجتماعي، في وقت لا تشكل فكرة المشاركة في صنع التاريخ والمجد الإنساني أي قيمة حقيقية في قاموسها الحياتي والفكري.

الأمم التي لا تضع اعتبارا للفرد بكونه العنصر الأهم في بناء المجتمع لا يمكن لها أن تصنع مجتمعا قويا. فالمجتمع ككيان جماعي لا يمكن أن يكون قويا ما لم يكن أفراده الذين يكونونه أقوياء. والدعوة بأن الجماعة تأتي أولا في حساب التطور الاجتماعي ثبت أنها مجرد الوسيلة التي بها يتم التحكم فيها بالجموع، فلم تتطور أي أمة عبر التاريخ إلا بوجود أفراد أقوياء، أذكياء، مبتكرين، متجاوزين حدود سيطرة أصحاب مصلحة إبقاء المجتمع مجموعة أفراد تردد (الموت مع الجماعة رحمة).