تكاد المرة الأولى التي يستقبل الجميع برضا واستحسانٍ قراراً يهدف لضبط وتنظيم أمر ما، وتتطابق رغباتهم في تنفيذه عاجلاً؛ إنه القرار السامي بضبط الفتاوى؛ التي بات لها وضع استثنائي غير مسبوق، خاصة في شهر رمضان، الذي تهل بمقدمه مهرجانات الفتاوى، تتسابق عليها القنوات من كل حدب وصوب، مشكّلة ماراثوناً هوسياً يسعى لتبليد العقل بأسئلة تافهة وأخرى بليدة وثالثة خارجة عن اللياقة والأدب في شهر يفترض أنه عبادة فردانية تستهدف ترقيق جوانب الروح للإحساس بالآخر وحاجاته، ورياضة بدنية يتقوى بها الإنسان على الخير والبذل، ولحظات تجلّ لغسل الأفئدة من الشهوات والسفر في معالي الغايات والمآلات.
فرحة الجميع بالأمر الملكي التنظيمي فرحة لا شية فيها، إلا أنّها فرحة تشي باهتمامات متضاربة وافتراق يعكس الرؤى ودرجة الوعي ومناط الاهتمام، فالمتشدّدون طاروا بالخبر في آفاقهم الإلكترونية يقرؤون ويعلقون ويشرحون ويشرّحون، ظناً بأنه يخدم توجهاتهم المتشددة، فحوروا مقتضى الأمر السامي وتوجيهاته إلى غايات في نفوسهم تهفو للحجر على العقول، والتحكم في الحريات الشخصية وإغلاق منافذ الرأي الآخر، فهجموا هجمة متشدد واحد مطالبين بإسكات الرويبضة وأغيلمة الصحافة (الكتاب والصحفيون) عن الخوض في أمور الدين، خالطين في فرحتهم الحماسية بين الرأي والفتوى، بقراءة تجمع إلى جانب التشدد التخلف والاستبداد الفكري، وتعكس بنىً ذهنية مأزومة متسلطة، ترغب في تأبيد السائد، أوالبائد تاريخيا، أو الوحشي والمستهجن مما تعداه المكان والزمان واختلفت معه الأحوال، خالطة بين قدسية الفقه النصّي وبشرية الفقه الفهمي، مصورين الدين بذلك ملْكا كهنوتياً يسيّجونه ويُرمى الآخرون خارج أسواره.
فيما يأمل- في الجانب المقابل - غالبية الإعلاميين من كتاب وصحفيين ومفكرين أنه تحقيق لفلسفة الذات الفردية وتجاوبٌ مع صرخة الإنسان المعاصر إزاء التهميش والتدمير الموضوعي لذاته، وتحرير فكري من كل التراكمات المترسبة والإكراهات التي تضغط على الإنسان وتسد طريق اختياراته وحريته، ومساهمة لجعل المناخ العام أكثر قابلية للعيش، خاصة والوعي الجمعي في مسيس الحاجة لدوره التنظيمي بعد انتشار فتاوى غريبة وشاذة تنبئ عن كسل ذهني، وأدوات مفهومية عتيقة عفا عليها تراب التقليد والتبليد الدهري منذ مئات السنين.
الكل قرأ قرار الملك من وجهة نظر آماله وتطلعاته، فالمتشدد الأصولي يراه ضبطا على هواه، يتسق مع همه التحريضي، بل وأخذ يملي عليه (ينبغياته) و(يجبياته)، والليبرالي إن جازت التسمية ينظر له بعين المتفائل لإكساب مساحات الفراغ الفقهي هواءً منعشاً طازجاً يعتقه من الغلواء والتخلف، مما يجسد الصورة بين مدىً فكري مرنٍ منعتق في رحاب الإنسان وقضاياه المعاصرة، وآخر متحجر يفهم الزمن معكوساً، يطبق فقه الصحراء على زمن الإنترنت والآي باد!
يأمل المتشدد من القرار أن يمد ساحاته ليشمل الرأي، فيصبح قيدا وعبودية وضبطا لمساحات الفكر والتعدد وأطر الناس في خاصة أمورهم بالقوة على ما أريكم إلا ما أرى، وكم هي فرحته في ترديد، "أبسألك يا شيخ جزاك الله خير.."، ولك أن تتخيل السؤال مما يتردد في القنوات الفضائية!
لكن القرار السامي تعدى احترام اختلاف الرأي إلى التفريق بين العام والخاص "كما نفرق بين مسائل الدين التي تكون بين المرء وربه في عبادته ومعاملته، ليعمل فيها ـ في خاصة نفسه ـ بما يدين الله به، دون إثارة أو تشويش، وبين الشأن العام"
لا ريب في أنّ مبادئ التربية الذاتية تستثير واعظ الله في قلب كل مؤمن للمبادرة إلى فعل الطاعات وترك المنهيات، أي لتربية ذاته وتزكيتها وتقويمها، لكنها لا تنمو إلا بتربة الحرية ولا تُسقى إلا بماء الفكر العقلاني المسترشد بالحكمة والقيم الإنسانية والدينية، وما اشتعال الفقه الإعلامي اليوم وما راثون الفتاوى إلا نتيجة انعدام أجواء الذاتية، والابتعاد عن جوهر العلاقة العبودية بين الإنسان وربه، والتضييق على الناس بتشديد الوصاية على ذممهم وأخلاقهم ودينهم، مما فتح فكر الوصاية على البحري، مهملاً روح التفكر والتدبر، ومقرراً عن الفرد كافة تدابير روحه وقلبه وأخلاقه وأعماله وأقواله، بل وحراسة نواياه لو أمكنه ذلك! فأناب فقه التحريم والتحوّط وسدّ الذرائع عن فقه المباح، وانشغل الناس بالتفصيلات عن الكليات، وبالشكليات عن الروحانيات، وبالقشور عن المقاصد الكبرى.
إن أبرز مقاصد الأمر السامي التنظيمي- كما يبدو لي- هو مأسسة الفتوى وتقنين الشريعة، وحصر المرجعية الشرعية في أمور الفتيا المتعدية الأثر في جهة واحدة، ولأن ضبط الأمر متشعب وواسع، فإنه يحتاج لتعميق الوعي بأزمة فوضى الفتيا، ويتطلب تغييراً في أنماط التفكير، واستحداث أدوات مفهومية جديدة، وتفهم مسؤول من كافة المواقع ذات الاتصال المباشر بالإنسان، إن كانت مدارس تعليمية أو منابر توجيهية أو وسائل إعلامية، أو مراكز دعوية، بل ويمتد لضبط المواقع الإلكترونية التحريضية والتكفيرية، لينتج بذلك تحريض توعوي مضاد نشط، يقاوم التقليد والتبليد، ويتناول مساءلة القناعات وإدراك الواقع، وبذا ينتهي الاحتساب غير المنضبط، وتسييس الدين لحساب الأهداف، وفوضى البيانات التحريضية، وفتاوى التكفير والتفسيق الهمجية، ويستعاد احترام مقامات الفتيا والمنابر، ويعيش الجميع آمنين على ألسنتهم وأجسادهم من دعوات القطع أو الحجر.
يقول الشاطبي: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني التمكن من الاستنباط بناء على فهمه لها"، ونتساءل ما مدى تحقق هاتين الدرجتين العاليتين فيمن تسيدوا القنوات مفتين في كل تفاصيل التفاصيل؟!
ويفتح السؤال المجال لسؤال آخر يظل قائماً: كيف سيتم اختيار المفتين على أساس من الفهم والتحري والوعي وإدراك الواقع وتفهم مصالح العباد التي هي شرع الله؟ ليأتي الجواب منتظرا في قادم الأيام.