في ثنايا الجدل الضخم المحتدم حول قصة الشهر لقتيلي مطاردة الهيئة كان القاتل الأكبر للعبرة والاستفادة من مخرجات وخراج القصة المؤلمة يكمن بالضبط في معاملين:

المعامل الأول هو حالة الاصطفاف الديماغوجية التي استندت إلى العواطف أو إلى ولاءات المدرسة. صار أن تكون مع جهاز الهيئة أو ضده في هذه القضية المؤلمة بالتحديد أقرب إلى حكايات ومناوشات جماهيرية، كما يحدث في العادة بين جمهور النصر وجمهور الهلال في حالة هدف (افتراضي) تم تسجيله بالتسلل المكشوف أمام عشرين كاميرا تلفزيونية في الملعب. فريق يغمض أربعة أخماس العينين كي يبرر مشروعية هدف مسروق، وفريق يصرخ ضد الهدف رغم أن صافرة التحكيم برهنت في مئة عام من عالم المستديرة أنها لا تتراجع. فريق هيئة الأمر بالمعروف ينسى أولاً أن حرمة الدماء أغلى وأقدس من الوظيفة، ويتناسى في زمن ثورة الاتصال أن المطاردة التي انتهت بالقتل كانت مرصودة بالدقائق وبكل التفاصيل من عشرات الجائلين بجوالاتهم في مقطع تنشره اليوم آلاف المواقع، وللقطة وصلت لنصف مليون حالة إرسال وتبادل في اليوم الأول من القصة. جمهور الفريق المناوئ لجهاز الهيئة لا يتورع عن المطالبة بنشر أحجيات المسح والإلغاء لكامل الجهاز الموقر، متناسياً أن قانون (الملعب) ذاته يسمح بطرد لاعب من الفريق على خطئه الفادح ببطاقة حمراء لأن بنية القوانين نفسها لا تسمح بمسح فريق كامل من الخريطة بالبرهان في مئة عام من ذات حقائق المستديرة: القصة بالضبط هي أن تغمض عينيك عن الحقائق وأن تغلف عقلك بالشمع كي تكون إما مع الهلال أو مع النصر مهما كنت مخالفاً لبعض أو كل جوهر الحقيقة.

المعامل الثاني، أن هذا الجدل الديماغوجي سيخرجنا من ثنايا قصة مؤلمة انتهت بمصرع شابين كان من المفترض أن يتحولا إلى رسم قانوني باسم (قانون القوس): ألا تطارد وأيضاً ألا تهرب. وفي الغرب على سبيل المثال، تحولت آلاف القصص المأساوية المشابهة في الحوادث إلى قوانين بأسماء الضحايا: قانون (برادلي) الشهير أنموذجاً.

بعد مقالي السابق عن (الهيئة.... ومِن الوظيفة ما قتل)، تلقيت اتصالاً من الصديق القريب الدكتور عبدالرحمن الحسنية، (تكنوقراط بامتياز وبالغ الاعتدال ولا أعلم له من قبل رغبة في دخول الجدل الثقافي أو المجتمعي رغم التأهيل ومؤهلات السيرة العلمية أو العملية)، كان عاتباً، وإلى حد ما غاضباً يحدد لي أسئلته الساخنة في جملتين:

الأولى: لماذا لا يكتب الإعلام ويتبارى الكتاب في تفنيد وقرع أي قصة مطاردة تنتهي بكارثة إلا إذا كانت (الهيئة) هي الطرف، ثم يتحدى أن يكتب أحد من ضحايا المطاردات المماثلة من جهات مختلفة.

الثانية: لماذا التركيز المطلق على المطاردة دون تفنيد الوجه المقابل لتوأمة الكارثة في السؤال: لماذا يهرب من يطلب منه التوقف بهذه العزيمة (الجيمس بوندية) رغم أن الهروب من الجهة الرسمية أيضاً جريمة. يتعاظم السؤال حين نعلم أن الهارب موظف أمني، وفي الدوريات الأمنية بالتحديد. هو بكل الاختصار يفتح وجهاً آخر لكل القصة. قلت له جواباً عن سؤاله الأول: هل سنكتب لو أن الضحية كان لغير يد أو سبب من الهيئة؟ نعم سأكتب ولكن على العزيز الأثير أن يعلم تماماً أن الهيئة ليست جهة أمنية وليست في النظام المدون جهة تحقيق أو ادعاء أو ضبط، ودعك معي مما يُعمل خارج التدوين والنظام. القرار الذي يعرفه كل عضو في هيئة الأمر أن هناك فرماناً واضحاً بمنع المطاردة، وحتى بعد الحادثة المؤلمة فإن المقاطع تبرهن عن ثلاث حالات في معدل اليوم الواحد: بعد مصرع (قانون القوس) وعن السؤال الثاني، سأتفق معك تماماً أن الهروب أيضاً جريمة وخطأ قانوني، بل ولربما أدخل مثل هؤلاء الأبرياء من الضحايا إلى دائرة شبهة. لم ينس الزميل الدكتور أن يذكرني ماذا يحدث للهارب في شوارع الغرب من مطاردات الأمن التي قد تنتهي في آلاف الحالات بطلقة رصاصة. هو محق تماماً ولكن: من هو الذي يطارد ومن هو الذي يمتلك الحق القانوني؟