استعدادات جبارة تقوم بها حكومة المملكة العربية السعودية لخدمة حجاج بيت الله القادمين من خارج المملكة ومن داخلها، تبدأ بعد انتهاء حج كل عام حتى بداية حج العام القادم. وهي جهود لا يعلم عنها العامة من المسلمين أو حجاج بيت الله. ولقد تطورت الخدمات المقدمة للحجاج على مختلف العصور حتى وصلت إلى ما وصلنا إليه اليوم من حيث الكم والنوع والخدمة الميسرة المساندة للحجيج، وأصبح الوصول إلى أماكن الركن الخامس للإسلام، يتم في رحلة ميسرة للحاج لا تتجاوز العشرين ساعة بحد أقصى من أبعد دولة في العالم إلى مطارات المملكة العربية السعودية. بعد أن كانت رحلة حياة أو موت، تتجاوز فيها الرحلة أحيانا الـ6 أشهر بالبر أو البحر، ولم تكن الطائرات متوفرة آنذاك. وارتفع أعداد الحجيج من بضعة آلاف إلى ثلاثة ملايين في هذه الأيام. رغم ثبات المساحات المخصصة والشرعية لمناسك الحج في المشاعر المقدسة عرفة ومزدلفة ومنى، إلا أن التطور العظيم الذي تم أثناء الحكم السعودي منذ عهد المؤسس ـ طيب الله ثراه ـ الملك عبدالعزيز، حتى اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يعدّ نقلة حضارية في إطار توسعة الحرمين وتطوير الخدمات المقدمة للحجاج، ورغم هذه التوسعة العملاقة للحرمين، وهذه الخدمات المتميزة تظل قضية القدرة الاستيعابية للحجاج في المشاعر المقدسة عرفة ومزدلفة ومنى ثابتة بحدود محددة لا يمكن توسعتها شرعا من أي جانب من الجوانب مما يجبر المنظمين للحج تحديد الأعداد؛ حماية لأرواح الحجاج من التكدس الذي يؤدي إلى كارثة تودي بأرواح الأبرياء من حجاج بيت الله.

ولهذا كانت المطالبة بضرورة تحديد عدد الحجاج؛ لضمان استيعابهم في المشاعر المقدسة دون إلحاق ضرر بالمسلمين، وهي قضية لا يمكن معالجتها دون تحديد عدد الحجاج. وإذا استطعنا تحديد عدد الحجاج بالتنسيق مع الدول الإسلامية، فإن المعضلة الأساسية هي كيف نستطيع تحديد عدد حجاج الداخل سعوديين ومقيمين نظاميين وغير نظاميين من جميع أنحاء المملكة، وعلى وجه الخصوص من مسقط رأسي مكة المكرمة. حيث كنا في القديم لا نترك الحج كل عام سواء كنا مطوفين أو غير مطوفين، وكذلك يفعل المجاورون للحرم من المقيمين غير النظاميين في السابق، سواء من الجالية الأفريقية أو البنجالية أو الباكستانية، التي كانت تعرف بـ"الحج الماشي" وهم الذين يؤدون الحج مشيا على الأقدام، ويفترشون الأرض تحت السماء في عرفة ومزدلفة ومنى وما زال البعض يؤدون الحج سنويا مشيا على الأقدام رغم المنع والمراقبة.

ويرى البعض أن حجاج الداخل في الغالب أكثر من الحجاج القادمين من خارج المملكة، ويؤكد البعض أن الحجاج المجاورين للحرم من المقيمين هم الأكثر عددا. وخوفا من الكوارث تسعى حكومة المملكة إلى تنظيم حجاج الداخل من خلال تصاريح الحج، ورغم أنها فكرة بدأ تطبيقها على الحجاج من الداخل القادمين من خارج مكة المكرمة قبل سنوات، وكان لها أثر إيجابي رغم بعض التجاوزات، إلا أن القضية الأساسية تظل في الحجاج من داخل مكة المكرمة سعوديين وأجانب، وتنظيم هذه الفئة كما يرى بعض من أصحاب الرأي يحتاج إلى حصرهم، وحصرهم مهمة صعبة جدا، ويرون أنه لن يكون إلا من خلال تسوير المشاعر المقدسة عرفة ومزدلة ومنى تسويرا كاملا، وتخصيص مداخل محددة تراقب فيها التراخيص. وقد يكون هذا أحد الحلول المطروحة رغم معارضته من البعض الآخر بحجة أن في ذلك منعا للمسلمين من عبادة ربهم.

وللإجابة على هذا، فإن التوجه للتنظيم يستهدف حماية أرواح المسلمين من التكدس، وقد مررنا بتجارب وأزمات وكوارث في الأنفاق بمكة المكرمة في سنوات مضت، حيث تكدس فيها مئات الآلاف من الحجاج بأكبر من قدرتها الاستيعابية فحدثت الكارثة ومات من مات في تلك الحادثة.

إن الركن الخامس من أركان الإسلام يرتبط أولا بالاستطاعة، والاستطاعة أنواع منها الصحية والمادية والسياسية والأمنية، وهو ركن ليس مربوطا بعام أو بسن معينة، وهو ركن غير واجب تكراره مثل الصلاة كل يوم والزكاة والصوم كل عام، أي أن الفريضة هي حجة واحدة يكمل فيه المسلم أركان إسلامه الخمسة إن استطاع إليه، وما زاد عن ذلك فأجر كبير إن شاء الله شريطة عدم مضايقة حجاج الفريضة، وإذا استدعت الضرورة تأجيل حجة الفريضة فلا مانع، وإذا استدعت الضرورة تأجيل الحج المتكرر لمن أدى الفريضة خوفا من مضايقة المسلمين فإن شاء الله له الأجر، وصيام يوم عرفة لمن لم يحج فيه أجر عظيم. ولهذا فإني وبكل قناعة شخصية أتمنى من كل إخواني المسلمين، وعلى وجه الخصوص رجال الأعمال المقتدرون، الذين أدوا مناسك فريضة الحج، وحجوا مرات متعددة، أن يتركوا المجال والفرصة لمن لم يحج من المسلمين، للإسهام في حماية أرواح المسلمين، ومنع حدوث الكوارث بسبب التكدس.

إن تاريخ حوادث التكدس في الحج، تذكرنا بالكوارث التي أودت بحياة الكثير من الحجاج رغم جميع الخدمات التي تنتهجها حكومة المملكة العربية السعودية، إلا أن قضية الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة لا يمكن معالجتها بغير مواءمة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة بعدد الحجاج.

متمنيا على أصحاب الرأي الآخر الإسهام في توضيح الصورة الحقيقية لقرار تصريح الحج لحجاج الداخل عوضا عن تأجيج الرأي العام على صناع القرار. فجميع الدول الإسلامية لا تستجيب لمن يرغب تكرار الحج كل عام والأولوية لحجة الفريضة. متمنيا على هيئة كبار العلماء في المملكة أن يكون لهم رأي يلتزم به المسلمون في موضوع تكرار الحج إذا كان فيه مضايقة لحجاج الفريضة وللضرورة أحكام.