بندر بن عبدالله بن محمد
أكثر كلمة أُسيء استخدامها أو فهمها هي الاستراتيجية، هناك من يخلط جدوله اليومي باستراتيجيته بالحياة، أو من تشابه عليه العمل التكتيكي بالعمل الاستراتيجي.
في ليلةٍ كانت حرارتها لا تمت بصلة للأمطار التي هطلت على مناطق السعودية، اجتمع سلام مع أصحابه في مقهى بمدينة الرياض.
اقترب رجل في الأربعينيات منهم ونظر لأحدهم وتبسم، قام المتبسَم له وصافحه ثم عَرّف سلام وأصدقاءه به.
قال الرجل "أتمنى عليكم قبول دعوتي الليلة على العشاء، أنا أعرف صديقكم واحترم أفكاره، الليلة لدي ضيوف من أميركا والمملكة المتحدة وإيران، وأحببت أن أستنجد بآراء صديقي وصديقكم" نظر الأصدقاء إلى بعضهم ووافقوا.
قرابة الساعة الثامنة وصل الأصدقاء لبيت الداعي، رحب بهم الداعي وعرفهم بالمدعوين الثلاثة، دارت المقبلات بينهم في جوٍ تملؤه التساؤلات حتى أوقفها قول أحد الأصدقاء "أميركي وبريطاني وإيراني وسعوديون في مكان وزمن واحد!"، ضحك الجميع وقال الأميركي "أنت تقصد، ما علاقة الإيراني بجلستِنا هذه؟" ضحك الإيراني وقال "ما الغرابة في جمعي بالأميركي والبريطاني؟ فنحن دائماً نجتمع، مكمن الغرابة أن يكون السعوديون معنا!" تناثرت الضحكات.
قال الداعي "الليلة ليست ليلة ارتياب، بل هي ليلة تبادل آراء" قال أحد الأصدقاء "أتمنى ذلك، وأبدأ بسؤال يدور بخاطري منذ زمن طويل، ما الفرق بين الاستراتيجية البريطانية التي سادت أقطارا كثيرة في القرون الماضية؟ وبين الاستراتيجية الأميركية التي منيت بهزائم كثيرة في القرن الماضي والحاضر؟" قال الأميركي "لدينا نجاحات كثيرة في عالمنا هذا، لا أعتقد أن ما قلت دقيق" رد عليه البريطاني "أعتقد أن في كلام الضيف كثيرا من الواقعية، وأعتقد أن سبب نجاح بريطانيا العظمى في ذلك الوقت اعتمادها على أبناء بلاد نفوذها" قال سلام "هذه تساؤلات وتحاليل تُحترم، أعتقد أن سبب نجاح بريطانيا في القرون الماضية وصراع أميركا في وقتنا الحاضر هو، أن بريطانيا اعتمدت على الواقعية (Reality) وأميركا اعتمدت على النظرية (Theory)، ومن أواخرها (صراع الحضارات) لصامويل هنتنجتون"، قال الإيراني "اتفق مع سلام، عشت أكثر من عشرين سنة وأنا بالمهجر، واعتمدنا على أميركا في إحلال الديمقراطية، وها نحن من سيئ إلى أسوء"، قال أحد الأصدقاء "اسمح لي يا أخي! إيران منبع شر في منطقتنا...."، قاطعه الإيراني بقوله "أليس لإيران الحق في أن تعمل لمصلحتها؟"، رد صديق آخر "نعم، كلٌ يسعى لمصلحته..."قاطعه صديق "ما هي مصلحة إيران في زعزعة الأمن بالمنطقة؟ وها هي الآن تضع الزيت على النار في سورية! ما مصلحة إيران في ذلك؟" رد الإيراني "مصلحتنا نفوذنا، فمن لا نفوذ له لا استقرار له" صمت الجميع لتناول الشاي.
قال سلام "الضيف الإيراني قال إن النفوذ هو مربط الفرس، وأوافقه أن ذلك هي إستراتيجية إيران، وأريد أن أُضيف أن إيران استغلت تحركات أميركا النظرية في خدمتها، أقنعت إيران أميركا أن من مصلحتها التعامل مع الكيان الشيعي فهو أنفع لها من التعامل مع الكيان السني، وذلك لسبب رئيس بأن للشيعة رأسا واحدا، وللسنة عدة رؤوس، فما هو الأفضل أن تتعامل مع جهة واحدة أو عدة جهات؟ اقتنعت أميركا بذلك، وكان أول ما عملته بعد غزو العراق، القضاء على النفوذ السني وتسريح الجيش العراقي والاتفاق مع (السستاني) في تسهيل مهمتهم من قِبل (بريمر) الممثل لأميركا بعد احتلال العراق...." قاطعه صديقه بقوله "سلام، هذا بالماضي، فماذا عن الحاضر؟ وكيف اتفقت أميركا مع إيران في سورية؟" رد سلام " أميركا لم تتفق مع إيران في قضية سورية، استغلت إيران نفوذها في سورية لأجل ملف التخصيب النووي. بعد قيام الثورة السورية أدركت إيران أن عليها أن تحافظ على الحكومة السورية التي فتحت لها أبواب النفوذ في قلب العرب. إيران تدرك أن ليس لها قدرة في مواجهة أميركا لوحدها، لذا استعانت بالقوى العظمى التي لها أطماع مع أميركا في المنطقة وهي روسيا والصين...." قاطعه أحدهم بقوله " وما مصلحة روسيا والصين في ذلك؟" ارتفعت رؤوس الحاضرين بإصغاء. قال سلام "الجواب على ذلك يأتي في الجغرافيا السياسية (Geopolitics) روسيا والصين تريدان الحد من نفوذ أميركا في المنطقة، وأهم أدوات النفوذ السياسي الاقتصاد والطاقة، هما من أعمدة الاقتصاد، فإذا نظرنا للخريطة نجد أن سورية هي همزة وصل اليابسة بتركيا، وكلنا نعرف أن تركيا هي منطقة الوصل بين سورية والجمهوريات المستقلة من الاتحاد السوفيتي وأوروبا؛ فلو نجحت الثورة السورية لأصبح من السهل توصيل الطاقة من السعودية والخليج لهذه الجمهوريات وأوروبا عن طريق البر الأقل تكلفة، بذلك تتلاشى أهمية الغاز والبترول الروسي لتلك المناطق وهذا في مصلحة السعودية ودول الخليج اقتصاديا ومن صالح أميركا في تقليص نفوذ روسيا..." قاطعه أحدهم وما مصلحة الصين وإيران في ذلك؟" رد سلام "مصلحة الصين في إضعاف الاقتصاد الأوروبي، ومن ذلك إضعاف الاقتصاد الأميركي وذلك باعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، أما إيران، فمصلحتها استخدام علاقتها بسورية في نشر نفوذها في المنطقة واستخدامها كورقة تلعب بها في ملفها النووي".
تواردت الخواطر بين الأصدقاء وهي تقول ( بعض المصالح لا تنجح إلا بالدمار)