-1-

في العالم العربي، كان الجزء الأكبر من الإعلام الرسمي وغير الرسمي المقروء، والمسموع، والمشاهد، قبل مظاهر "الربيع العربي"،2010/ 2011، لا يجرؤ على ترديد كلمات القاموس السياسي الغربي مثل: "الديموقراطية"، "حقوق الإنسان"، "فصل الدين عن السياسة"، "حرية الرأي والرأي الآخر"، "المجتمع المدني"، "المساواة بين الرجل والمرأة"، "فصل السلطات"، "استقلال القضاء"، "إصلاح التعليم".. الخ.

وكانت مثل هذه الكلمات والمصطلحات من الممنوعات والمحرمات، ومن الكبائر السبعة، ولا تُردد إلا همسا، ولمسا.

وكانت الحرية الإعلامية في العالم العربي، حسب تقرير منظمة "بيت الحرية" العالمية معدومة تماما في الدول العربية كافة، ما عدا بعض البلدان العربية القليلة.

كما أصدرت منظمة "مراسلون بلا حدود" الفرنسية تقريرا يقول، إن البلدان العربية في حرية الإعلام تأتي في ذيل قائمة تضم 139 دولة. فقد خلت الخمسون الأولى من أي دولة عربية. وتضمنت الخمسون التالية ثلاثة دول عربية فقط.

ثم أصبحت كلمات القاموس السياسي الغربي السابقة الذكر، وتلك المصطلحات، بعد ذلك، ملح الكلام، وسكّر الإعلام، ولا يحلو الكلام في الإعلام العربي إلا بترديدها جهارا نهارا. وكان لها وقع الرضا والقبول في كثير من الأوساط الرسمية العربية العليا، التي أدركت أن ما يقال ويطالب به في الداخل، أفضل بكثير من أن يُقال ويطالب به في الخارج، وهو لسلامة الرأس بلا شك.

وأن كلمة الداخل عندما لا تُسمع، وتحرُك الداخل عندما لا يُقشع، تضطر الكلمة لأن تأتي من الخارج، والحراك يزحف من الخارج، وساعتها تهتز الأرض، وتتداعى أعمدة الهياكل، ويحدث الزلزال، ليس بمقياس "ريختر"، ولكن بمقاييس البيت الأبيض، و10 دواننج ستريت!.

-2-

قبل "الربيع العربي"، لم يكن لدى الأنظمة العربية حاجة إلى الوحدة، أو التضامن، أو الخوف من الداخل أو من الخارج. والدليل أن العرب لم يلتفتوا إلى أدنى رابطة وحدوية تربطهم وهي الجامعة العربية التي كانت عبارة عن مقهى رصيف لعلك الكلام، وهش الذباب، وإزجاء أوقات الفراغ. ولم تكن تهمهم مؤتمرات القمة العربية سواء عُقدت أم لم تُعقد. فقد تعطلت مؤتمرات القمة ولم تنعقد منذ العام 1966 إلى أكثر من 17 مرة في 17 سنة، فلم يهتز لعدم انعقادها نظام.

فالقمة العربية لم تنعقد في الأعوام: 1966، 1968، 1971، 1972، 1975، 1977، 1983، 1984، 1986، كما تعطلت القمة العربية، ولم تنعقد طيلة خمس سنوات متتالية (1991-1995)، وكذلك طيلة ثلاث سنوات متتالية (1997-1999). وكانت الأنظمة العربية غير مكترثة بهذه القمم، التي أطلق عليها أحد الصحفيين العرب "قمم الحضيض"، وكانت الأنظمة العربية في غياب القمم العربية طيلة هذه السنوات الممتدة، تنام في العسل الأبيض والأسود، هانئة، مطمئنة من أن الأبواب مغلقة، و"الترباس" مُحكم، وشخير النيام السعداء يرتفع، و"الأشيا معدن".

ولكن بعد عام 2004، أصبح عدم انعقاد مؤتمر للقمة كارثة قومية، ومصيبة وطنية، وفضيحة عربية. فعندما ألغت تونس مؤتمر قمة 2004، قامت قيامة العرب ولم تقعد. وتنادى الزعماء العرب إلى عقدها بأسرع ما يمكن، وفي أي بلد عربي يستضيف هذه القمة، حتى ولو كان في القمر، كما قال كبيرهم. وكأن هذه القمة هي الأم الولادة التي ستلد المولود المنتظر أو "المهدي المنتظر" لإصلاح حال هذه الأمة.

وفي الحقيقة، فإن هذا التكالب غير المألوف على عقد مؤتمر القمة لم يكن سببه غير ما كان يرى الحكام العرب بأم أعينهم ما سيحصل في العالم العربي، وما سيتبعه من تحديات.

-3-

ولكن حدثت خطوات حداثة سياسية في بعض الدول العربية، نتيجة تغيرات سياسية وعسكرية مختلفة.

وقد تركت هذه التداعيات بصمات على الحرية العربية، والديموقراطية العربية، لبدء مشروع الحداثة السياسية، الذي تجلى في انطلاقة "الربيع العربي" 2011/ 2012، حيث كان العرب قبل هذا "الربيع" يغطون في نوم عميق، في العسل الأبيض والأسود. لم يكن يزعجهم مزعج. فقبل هذا التاريخ لم تكن الأنظمة العربية سواء كانت من سلاطين الانتساب أو من سلاطين الانتخاب، تخشى على نفسها من الداخل أو من الخارج، خاصة وأن الحرب الباردة قد انتهت وسقط "البعبع" الشيوعي، وأصبحت أميركا في "الجيب"، وقد تصدرت سيادة العالم، وأصبحت سيدة هذه الأرض، لا يشاركها أحد في هذه السيادة.

فكان سلاطين الانتخاب يفوزون قبل "الربيع العربي" بنسبة 999و99 ?.. هذا الرقم العربي العتيد، الذي كان يُشار إليه بالـ5 تسعات الذهبية على غرار الـ5 نجوم الذهبية، لفنادق الدرجة الممتازة. وكان سلاطين الانتخاب قبل "الربيع العربي" يرفعون شعار: لا استقرار إلا بالاستمرار. وكان إعلامهم يُردد في الحملات الانتخابية: إما أن يتم انتخاب الأب القائد الرائد، فينفّذ مشروع الإصلاح، وإما أن تبقى البلاد بلا إصلاح، ولا مفتاح، فيعم الخراب، وتُنتهك الأبواب!.

والمعارضة الداخلية العربية، قبل "الربيع العربي" كانت مقموعةً، ومسجونةً، ومطاردة. وكانت معارضة تذهب بالعصا، وتأتي بالجزرة. وكان يُطلق عليها "المرتزلة" – إن وُجدت - وهي كلمة على وزن "المعتزلة" وأصلها "المرتذلة"؛ أي المرذولة، فأصبحت "المرتزلة" بلسان أهل مصر، وأهل الشام من سكان العواصم.