قرأت فيما قرأت مرة في كتاب صيد الفوائد أن هارون الرشيد، اتخذ من الكسائي - رحمه الله - معلماً لنجليه الأمين والمأمون، قائلاً له: اقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تمرنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها"، ولم يمنعه من شيء فيه صلاح لولديه، موصياً إياه ألاّ يدللهما وأن يوقفهما على بابه ليدركا أهمية المعلم ورهبته، وأن يعنفهما إذا لزم الأمر، وقد كان الأمين والمأمون يتسابقان على من يحمل نعال الكسائي إليه بعد الانتهاء من الدرس، وذلك من شدة تقديرهما للمعلم، وهذا ما شاهده هارون الرشيد بنفسه، فذهب إلى الكسائي وسأله: أيها المعلم من هو أعز الناس؟ فأجابه: ومن أعز منك يا أمير المؤمنين. فقال الرشيد: بل أعز الناس من يتسابق وأبنائي ليلبساه نعليه"، فأصابت الكسائي رهبة مما قال الرشيد، لكنه أكرمه ورفع مكانته تقديراً منه للمعلم ومكانته. هذه هي الأخلاق التي يجب أن يُعامل بها المعلم، وفي ذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (من حق العالم عليك ألا تُكثر عليه السؤال ولا تُفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا تطلبن عثرته، وإن ذل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله، ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلسن أمامه وإن كانت له حاجة سبقت القوم).
وهناك في ثنايا التاريخ الكثير من القصص التي تحكي عن إجلال المعلم ومكانته، أما اليوم فلم تعد للمعلم تلك الهيبة والمكانة التاريخية التي تعودنا على رؤيته من خلالها كإنسان مختلف، كان يشكل منعطفا تاريخياًّ وحقيقياًّ لكل من يمرون بين يديه، وبات أقل مرتبةً مما كان عليه - مع تقديري العظيم للمعلم -، فقد حجمته تعاميم وزارة التربية والتعليم إلى الدرجة التي لم يتوقعها أحد ربما، وأنا أول أولئك الذين صدموا من بعض ما ورد في مضمون تلك التعاميم الصادرة بشأن المعلم، ووضعته في خانة العادية بل أقل من ذلك أيضاً!
تخيلوا أن يكون أحد النصوص في لائحة التعاميم الصادرة والموجهة إلى المعلم ما معناه كالتالي: (لا يحق للمعلم مقاومة الطالب حتى يطرحه أرضاً)!! وهنا أتساءل عن حقيقة مقام المعلم عند وزارة التربية والتعليم، وما الذي تريده من إصدار مثل هذه التوصيات المحقرة للمعلم وهيبته؟! أو تلك الجزئية التي توجه المعلم في الاجتماعات باتجاه تخريج الأعداد الكثيرة من الطلاب، وإلا فإنه سيحرم من بعض الإجازات وبعض الامتيازات في التقييم السنوي المعروف بـ(الأداء الوظيفي)!!
أتمنى ألاّ يقارن بعض منظري التعليم لدينا، بين واقعنا من جهة وبين واقع التجربة التعليمية في المجتمعات الأوروبية وبعض الدول الشرق آسيوية من جهة أخرى، فإن في ذلك من وجهة نظري قسوة غير محتملة على المجتمع وأهله، لقد استوعبت الآن الكثير من المأزق التربوي لدينا، وأصبحت لا أشك أننا نسير في الاتجاه الخطأ ربما فيما يخص (التربية) تحديداً.
في الماضي لم يكن هناك "يوتيوب" أو "تويتر" أو "فيسبوك" أو وسائل اتصالات نوعية أو أيٌّ من المعامل والعوامل المساعدة للمعلم مثل تلك المتوفرة اليوم، ومع ذلك فقد نجح المعلم القديم إلى حد بعيد، في تقديم أجيال ناجحة إلى البشرية كماًّ وكيفاً وإن بدرجات متفاوتة، ونجح في مساعدة أمته على السير إلى الأمام، وفق معايير التعليم التقليدية التي كانت تمنح المعلم جزءاً مهمًّا من مكانته الأخلاقية كـ(مربي)، اليوم ومع توفر عدد من عوامل كثيرة يفترض أن تساعد المعلم على النجاح؛ إلا أننا نرى تراجعا ملحوظاً على هذا المستوى، لأن سياسة ومنهجية التعليم الحالية أصبحت تركز على أهمية زيادة المعدل التراكمي للنجاح كيفما اتفق، بعيداً عن تفضيل النوعي إلى حد بعيد، ويعطي مؤشر النمو باتجاه الكمي لا الكيفي؛ دلائل غير مبشرة للمستقبل لأنه نجاح شكلي أكثر منه نوعي. وهذه إحدى السلبيات التي أدى إليها كنتيجة تجاهل هيبة وشخصية المعلم، ما يعني تحويل المعلم إلى آلة تلقينية، والمدارس إلى مفرخة لا غير. ونحن في الوطن العربي ما زلنا نحتاج إلى المعلم التقليدي قطعاً، وهذا لا يعني أنني أتنكر للنموذج الجديد للتعليم، بقدر ما هو فهم للواقع الذي نحن عليه، وتماهياً مع الشعار نفسه الذي ترفعه معظم الوزارات المعنية بالتعليم في الوطن العربي (التربية) والتعليم.