في السياسة ليست هناك صداقات دائمة، بل مصالح متحركة، حالها حال الزمن ليس له ثبات. وتأتي الأحداث في أرض الكنانة لتؤكد هذه المقولة بشكل لا يقبل الجدل. فبعد انتفاضة 25 يناير اتهمت المؤسسة العسكرية، بمحابات الإخوان المسلمين، والمساعدة على تسلمهم للسلطة. والآن تتسارع الأحداث في هذا البلد الشقيق، ويحمل لنا كل يوم أخبارا جديدة. فحملة الدولة على جماعة الإخوان المسلمين قاسية وشرسة. والحملات المقابلة، في شكل إرهاب واغتيالات وعمليات تفجير مرشحة للتصاعد.

في خضم هذه الأحداث، يبدو موقف الإدارة الأميركية ملتبسا. فقد أعلنت حربا لا هوادة فيها على الإرهاب، بعد حوادث 11 سبتمبر 2001، وكانت هذه الحرب مبرر احتلالها لأفغانستان والعراق، والآن تتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، والمنظمات التكفيرية لتخريب مصر.

لوحة تختلط فيها الأوراق، وتبدو المشاهد متناقضة، لكنها تصب في محصلتها في مخطط تفتيت البلدان العربية، بحيث تحيط بنا النيران الآن في معظم الدول المجاورة، في استعار لا يبدو له نهاية قريبة. ولا شك أن المستفيد الأكبر من انهيار الأمن في مصر هم الصهاينة، فهم لا يرغبون في وجود أي جيش عربي متماسك، وقادر على الدفاع عن أراضيه، فكيف والحال إذا كان ذلك جيش لأكبر قوة بشرية عربية.

لقد حاولوا منذ نكسة يونيو 1967، التخلص من قطاع غزة وإعادته إلى مصر. طرحوا إعادة القطاع للإدارة المصرية، كجزء من مبادرة وزير الخارجية الأميركي، وليام روجزر للسلام في الشرق الأوسط، في أوائل عام 1970. وحاولوا مع الرئيس السادات، بعد حرب أكتوبر عام 1973، إذ طلب هنري كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي أن يدرج موضوع غزة في برنامج المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط. وعرض الموضوع مجددا في مباحثات كامب ديفيد، من قبل الرئيس الأميركي جيمي كارتر في نهاية السبعينات من القرن المنصرم. ومرة أخرى، عرض الموضوع على الرئيس حسني مبارك، وقد رفض الرؤساء الثلاثة مناقشة موضوع استعادة القطاع للإدارة المصرية، بشكل قاطع، وغير قابل للمناقشة.

أثناء انتفاضة أطفال الحجارة، تمنى رئيس الحكومة إسحق رابين ألا يستيقظ من النوم إلا وقد غرقت غزة في عمق البحر. لقد كانت غزة كابوسا لمعظم القادة الإسرائيليين، وبسببها اتصلوا بأحد كوادر حركة فتح، وطلبوا إليه إبلاغ عرفات تسليم غزة لمنظمة التحرير الفلسطينية دون قيد أو شرط، فكان جواب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بأنه لا يمكنه أن يتسلم غزة، وينسى الضفة الغربية، وكان الحل الوسط يومها هو أن يسلم أريحا معها. وقد وجه هذا الاتفاق السري بين رابين وعرفات اتفاقيات أوسلو التي وقعت عام 1993.

هذا التفصيل يحيلنا إلى ما يجري الآن من عمليات إرهابية في شبه جزيرة سيناء، إذ تشير تقارير موثقة إلى أن أكثر من 20% من سيناء أصبحت تحت سيطرة المتطرفين، الذين يتلقون دعمهم بشكل مباشر، من حركة حماس في قطاع غزة. بمعنى آخر، هذه المرة، لن يضطر الإسرائيليون إلى الطلب من المصريين استعادة غزة، بل ستصبح استعادة القطاع إلى مصر ضرورة تمليها الأوضاع الأمنية، ورغبة المؤسسة العسكرية المصرية سد المنافذ على الإرهابيين.

وربما تستغل إسرائيل هذه الفرصة لتستفرد بالضفة الغربية، وتكون أمامها فرصتان سانحتان، إما ترحيل الفلسطينيين إلى القطاع وشبه جزيرة سيناء، أو استعادة فكرة الوطن البديل في الأردن، في حال أصبح متعذرا التوصل إلى حل للأزمة السورية.

تأتي هذه الأحداث، وسط نشاط سياسي مكثف لإعادة كتابة الدستور، إذ تشكلت لجنة الخمسين واختارت من بين أعضائها 10 من فقهاء القانون لكتابة مسودة الدستور المعدل، الذي يتوقع أن يجري الاستفتاء عليه قبل الانتخابات الرئاسية.

ومنذ الآن، بدا أن القول الفصل في مستقبل مصر السياسي، سيكون للمؤسسة العسكرية. فحسب التسريبات، حول نصوص الدستور الجديد سيجري تعيين وزير الدفاع، من قبل القيادة العامة للقوات المسلحة، ولن يكون لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء قول في ذلك. وذلك يعني أن رئيس الجمهورية، لن يكون بمقدوره مستقبلا عزل وزير الدفاع، وأن الحكم على أقل تقدير، سيكون شراكة بين الجيش ورئيس الدولة. وذلك أمر يشك فيه الكثير من المتابعين، أمام القوة والحصانة اللتين تتمتع بهما المؤسسة العسكرية، ويميلون إلى أن الجيش ستبقى له اليد العليا في تقرير مستقبل وسياسات مصر، وليس رئيس الدولة.

وبالنسبة لانتخابات الرئاسة القادمة، فإن من المرجح أن يخلع الفريق السيسي بدلته العسكرية، ويرشح لرئاسة الجمهورية. وقد بدأ أنصاره في تمرد حملة واسعة، لاستقطاب حشد واسع من المؤيدين لترشيحه، تحت شعار "كمل جمايلك".

في نفس الوقت، يستعد الأستاذ حمدين صباحي، لبدء حملة ترشيحه لرئاسة الجمهورية. ولن يكون نصيبه هذه المرة بأفضل من نصيبه في السابق إذا ترشح الفريق السيسي للرئاسة. ففي هذه الحالة، سيكون وصول الفريق السيسي لرئاسة الدولة أمرا محسوما، ولن يكون موضع شك أو جدل. أما إذا اعتذر السيسي عن الترشيح ـ وذلك أمر مشكوك فيه ـ فإن من يتسلم رئاسة الجمهورية، لن يكون أفضل حظا من الرئيس السابق الدكتور مرسي. فهو سيواجه بمصاعب اقتصادية كبيرة، وبانهيار أمني وبأزمات سياسية، وأيضا بضغط المؤسسة العسكرية، التي لن تقبل منه بأقل من تنفيذ أجنداتها كاملة.

مخرج مصر من الأزمة، يقتضي أن توضع المؤسسة العسكرية في المقدمة، فلا يمكنها الاختباء خلف رئيس لا يملك سلطة حقيقية. لكن ذلك لن يخلو من المثالب، فالمصريون الذين بقوا تحت هيمنة العسكر لأكثر من 60 عاما، سيواصلون العيش تحت هذا النوع من الحكم، ويعودون مجددا إلى المربع الأول. سيبقى المصريون أمام معضلة كبيرة، سببها عمق الدولة المصرية، التي تفترض وجود مؤسسة عسكرية قوية، والموضوع بحاجة إلى حساب ومراجعة دقيقة للإيجابيات والسلبيات. والموضوع بحاجة إلى المزيد من التفصيل والتحليل في حديث آخر بإذن الله.